فرناندو بيسوا قبرٌ مضيءٌ في الهواء، وردةٌ في رَيْعانِ خَمرِها

ثقافة 2022/07/19
...

 حميد المختار
 
كتب الروائي الإيطالي الراحل (انطونيو تابوكي) رواية قصيرة بعنوان (هذيان) الأيام الثلاثة الأخيرة، استحضر فيها (تابوكي) بكل حنان وشغف حياة وموت أحد أكبر شعراء وكُتّاب القرن العشرين وهو (فرناندو بيسوا)، وعلى سرير الموت في المستشفى أمضى ثلاثة أيام من الاحتضار استقبل بيسوا خلالها وجوهَه وشخصياته التي اختلقها وتخيّلها، وكأنّ الرواية كانت عبارة عن هذيان مستمر..
في روايتي تابو وفي القسم الثالث منها تحديداً، يقتحمني فرناندو بوجوهه الخمسة ومؤلفاته؛ (اللا طمأنينة، راعي القطيع، الترانيم، تربية الرواقي، ورسائل إلى الخطيبة، ملك الفجوات) وغيرها من المؤلفات..
وُلد بيسوا في لشبونة عام 1888 ومن خلال مؤلفاته استطاع وبطريقة غريبة لا تدل على سويّته أو حتى اعتداله أنْ يَدْخُل في بدائل وشخصيات أُخرى استخرجها بل خَلَقَها كقرينة له وأعطاها صفة الشّاعرية، كان أبرزهم وأكثرهم شهرة بديله الأول (ألبرتو كاييرو) ثم تبعه كل من (ريكاردو رييس وألفارو دي كامبوس)، صارت هذه الشخصيات التي أوجدها (بيسوا) تعبّر عما يشعر به وتتحدث معه وعنه بل وأصبحت لها حياتها المستقلة ونتاجها الشعري، ولهذا فقد كَتَب (الفارو دي كامبوس) قصيدة عن فتاة أَحبّها فرناندو وهي المرأة الوحيدة في حياته:
(جميع رسائل الحب تُثير الضحك ...
لن تكون رسائل حب
لو لم تكن تثير الضَّحك).
عاش فرناندو متنقلاً في الفنادق والبنسيونات البسيطة والمتواضعة، لم يكن مُطارَداً مِن قِبَل أحد أو مِن قُوى سياسية، وكذلك الوجهان الآخران له (برناردو سواريس) والفيلسوف العجوز (انطونيو مورا)، كانت هذه الشخصيات المنبثقة من ذوات وأعماق فرناندو متعددة الاهتمامات مثل الشِّعر والقصص البوليسيّة والعلوم السياسيّة والتنجيم والإيمان بالقوى الخفيّة والسحر والماسونيّة، وكثيراً ما كانت آراؤهم السياسيّة تثير الجدل والخلاف..
أمّا (أوفيليا كيروس) فهي المرأة الوحيدة المذكورة في حياة فرناندو بيسوا ووحدها الشاهدة على أَلق ذلك الرجل عديد الأَنَوات والمُتَخفّي وراء أنداد وأقران لا عدد لهم استطاع مِن خلالهم أنْ يصنع لذاته الواحدة أكثر من أُفق وقمر وقبر وترنيمة، هذا الرجل المُسْتَوحِد الذي لا يَخشى الجنون في كل صباح لا بسبب أحلامه ولا من مخاوف الواقع، إنّما بسبب وجوده مع نفسه في السرير، يقول:
لا أَكْتُب سوى الأرقام، وحتى موت من أُحب يبدو وكأنّه يحدث بلغة أجنبيّة، في أيامه الأخيرة يأتون بشمعة وهم يقولون: ليلة سعيدة، يُغلِق النافذة بالكاد وهو يَنهض من السرير ويُشعل الشمعة ولا يَفعَل شيئاً سوى ترك الحياة تسري في داخله كقاع نهر.
وهناك من وضع فرناندو بيسوا قُبالة (النفري) وجهاً لوجه، فكما كان النفري يَحكي عن وقَفاتِه أمام الحق حيث يقول:
أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات..
ورأيت كل شيء قد أسلمني
ورأيت كل خليقة قد هَرَبت مني وبَقيت وحدي..
ثمة توافق وتَثاقُف غريب بين هاتين الشخصيتين، حيث أنّ هذه الوقفات النفريَّة تقترب كثيراً من شذرات بيسوا ومن وقفاته إزاء ذاته وهو يحاور الكون والآخر والناس في الشوارع والمتنزهات العامة، وحتى في ساعات احتضاره وحضور أنداده وأقرانه وهم يحيطون به مِن قَبْل أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة، لذلك فهو يُسافر كثيراً خارج وقوفات ذاته، يذهب من محطة إلى محطة في قطار جسده أو قَدَرِه مُطلاًّ على الشوارع والساحات وعلى الحركات والوجوه المتماثلة دائماً والمختلفة أيضاً، عندما يتخيّل ذلك يرى سَفَره مُنطلقاً مِن مفهوم الرؤيا والوهن الذي أصاب المخيّلة فيقول: باستطاعة أيّما طريق أنْ تمضي بِكَ حتى نهاية العالم، إنّ نهاية العالم مثل بدايته، ما هي إلا تَصَوّره عنها، لذلك فهو اذا تخيّلها فإنّه يَخلقها من جديد، وحين يخلقها تصبح موجودة يراها مثلما يَرى الآخرين ..
حين أقرأ كتاب (اللا طمانينة) بترجمة (المهدي أخريف) أَغيب عن الوجود وأُصبِح محلّقاً في تلك العوالم السحريَّة الآسرة بل والمعتمة المسافرة في اللا جدوى، ثم أراه ينوح قائلا:
يا حمامة ميتة تحت الظل حرريني من الفرح..
حينها تصعد دموعنا معاً ولا تسقط أبداً..
نحن أيضاً نمتلك ليس فقط الدموع نفسها وإنّما أيضاً الوجوه والأنداد التي امتلكها ذات يوم هذا الرجل المتوحّد -بيسوا- نحن أيضاً أقصينا وجوهنا وأخفيناها وشظّيناها في مشاهد معتمة بعيدة عن عيون الواقع المُراقِب، لكن مع ذلك كله سَتَبْقى ثمة وجوه تَطلُّ على العالم بين الفينة والأُخرى، وجوهٌ تَرى ما لا نَراه وتَكتُب ما نَحلم به فقط.