الشعر والنشر 4

ثقافة 2022/07/19
...

 ياسين طه حافظ
   لم يعد لنا إلا أن نفكر بآخر ما يمكن أن ينجدنا بحل لمشكلة نشر الشعر، ونشره يتعارض مع عدم بيعه وفي عدم بيعه خسارة للناشر. المعونات، مهما كانت، مؤسفة في حقيقتها، واحد أسباب الأسف، أن وراء العون مقاصد، أو شروطاً، وطبعاً دائماً ما يكون هذان معاً، انتبهت شخصياً إلى حقيقة أن أنشر قصيدة في صحيفة يوميّة تبيع خمسة آلاف نسخة قد أحصل لقصيدتي على ألف أو ألفي قارئ، وأن أطبعها في كتاب بـ 500 نسخة لا يباع نصفها، ولا أحظى بأكثر من مئتي أو ثلثمئة قارئ، الأفضل أن أنشرها في صحيفة يومية واسعة الانتشار، ومن دون تكاليف نشر.
لكن هذا غير مقنع لشاعر مهتم ومتحمّس ويريد أن يرى قصائده مجموعة في كتاب له تصميمه ويحمل اسمه.. شخصياً، نشرتُ قصائد طوال اتخذت أحداها صفحتين كاملتين من جريدة وأخرى ظهرت بصيغة كتاب المجلة. لكن هذا لا يتاح دائماً. فرص مثل هذه غير متاحة للجميع. 
نعود إذاً إلى المشكلة ونبحث عن حل.
يمكن أن نفيد من الإعلام. ونفكر بطبع بضع قصائد أو قصيدة طويلة في كراس، هذا سعره رخيص، غلاف ورقي، دبوس، كبس ولا تصميغ، المادة هي المادة وهو نوعها وكمية الطبع أكثر ومبيعها بسبب رخص ثمنها أوسع وأكثر شعبيّة، ثمة فرق عن التغليف الصلب والطبع الأنيق والورق الممتاز وهذه الطبعة.
الكراس الإعلامي، الصحي، أو التوجيه العسكري زمن الحرب، أو الاحتفالي، هذه تتكلف بها الدولة أو مؤسساتها، وتوزع مجاناً أو بسعر خفيض، ولا أحد تمسه خسارة. أما إذا كان الكراس قصيدة أو قصائد شاعر، فسيكون المبيع أوسع من بيع الكتاب ولكنه يبقى محدوداً بسبب ضيق الدائرة التي يتحرك فيها، والكلفة أقل على الطرفين.
فلنأت إلى تجربة أخرى، مارسها الشاعر جون سلكن... الشاعر سلكن يتولى اصدار مجلة Staned، وله مناصرون ومشتركون وقراء بين ستة وسبعة آلاف، ألا يمكن الاستفادة من هؤلاء في بيع كراس شعري أو Pamplelet؟ محاولة!
وهذا ما تم فعلاً، طبعت ونشرت كتيبات أو كراريس شعريّة يضم الكراس الواحد شاعرين أحدهما غير معروف، وجمعت بعض منها من بعد بكتاب ذي غلاف صلب، وتبدو التجربة قريبة للنجاح.. لكن التجربة توقفت! بدأ خط التنازل، فالعدد الرابع كان الأخير وكان بغلاف ورقي، يختلف قليلاً في ثقله عن ورق الكتابة، الزبائن غير مجبرين على شراء كراس شعري أو ملحق فضلاً عن المجلة.
وجرّب شعراء طبع قصائدهم على الآلة الكاتبة وتوزيعها أو محاولة بيعها ولكن هذه ليست كتاباً وقراءً ومكتبات.
ماذا نفعل؟ لنفتش، لنبحث في قاع وجيوب الحقيبة لعلنا نجد حلاً أو إشارة لحل. مشكلة نشر الشعر قائمة، وحقيقة أن هذا الفن يجب أن يظل حاضراً لاخلاف عليها بين المهتمين به وبالفنون. لكن الشعر والفنون من اختيارات واهتمامات النخب، والنخب قليلة، وللشعر نخب متخصصة ضمن النخب قليلة العدد أساساً. كيف اذاً؟ المحاججات اللفظية والحماسات لا تقف بوجه الواقع. أسأل: كم عدد المهتمين بالشعر أو بالرسم أو بالموسيقى بالنسبة للمهتمين بكرة القدم؟ لكرة القدم، محظوظ من يحصل على تذكرة! هي هذه الحقيقة. الفن يترفع، وهو يجلس وحيداً ينظر بأسف لما يرى وقد يرتضي النتائج على مضض. والحياة تزدحم اليوم بما يُقرَأ ويسمع ويشاهد ويمَارَس، وأن المادي الملموس أكثر حضوراً من الوهمي أو الحلمي. والناس، عموماً، لا يملكون ثقافة تمكنهم من فهم أو من التمتع في ذلك الفن الذي يعتمد الكلمات ولا يعطي مباشرة ما فيه. ما يزيد أسفنا أن الثقافة التي يقرب خلالها الشعر من الإفهام وتبهج به الذائقة، هذه الثقافة تقل في العالم يوماً بعد يوم، والشعر يعيش الآن بين أفراد أسرته! وحتى أساتذة الأدب، المهتمون بالشعر، أخذتهم فروع اللسانيات وكشف أسرار الجملة والمعنى فهم أقرب لعلوم اللغة، وواحدهم يتحدث في السيمياء والتأويل والتركيب اللغوي ليكون معاصراً ولا تعوزه الثقافة الحديثة اللازمة لتطوره العلمي ولتجديد معارفه. الشعر لا يتقدم بالانطباع عنه أو بالرضا أو بالارتياح الغريزي والهجاء الاجتماعي، الشعر يتقدم بتقدم “الفن” الشعري والثقافة الفنية – النقدية والاهتمام كل الاهتمام، بتاريخ الشعر وتطوره. وهذه لا يمكن أن تكون شعبية سائدة. نحن الآن بأزاء تحول اجتماعي. تحولات في ثقافة المجتمع ومعايشة المجتمع لمشكلاته وانشغاله بمستجدات الحضارة والضرورات اليوميّة والمتع التي يمكن الحصول عليها بقوانين اجتماعيّة واضحة، لا بالإشارة والأمنية.
خلاصة كلامنا، الناشر لا يريد أن يقصي الشعر ولكنه يريد كتاباً يُشترى، قد لا يريد أن يربح من الشعر لكن في الأقل لا يخسر. وفي عمله “المتوسطي” هذا يبدو متفضلاً، وإلا فالناس تعمل لتتقاضى أجراً والناشر يعمل ليكسب، وهذه حقوق طبيعيّة لا اختلاف عليها.
ومحرر الشعر، يريد جديداً، يريد مدهشاً، يريد امتيازاً ليفرح به، أو يريد مقنعاً مما هو معروف. ولمحرر الشعر مهمة نقديّة فارزة، مهمة اختيار ما يرضي دار النشر ويلبي ضرورات هذا النشر.
اعتماد المعونات أو “الدعم”، الرسمي من الدولة أو المدني من المؤسسات أو المنظمات، غير مرحّب به؛ لأنَّ دافعه أولاً لا الوعي الفني، ثانياً، جوهر الفعل من اسمه “مساعدة” أو لطف من أعلى، ونحن نريد الشعر، أن يسمو بالأرضي، فكيف يسمو به وهو معوز يتلقى عوناً مما قد ينفر منه ويهجوه ضمن ما يهجو من استياءات حكم وسيئات حياة؟ كل مهرجانات الدولة، لنفسها أساساً لا للشعر.. لا حق لنا في الاستياء، كل يعمل لنفسه. وان كان هناك بعض الكرم، ففي الكرم أيضاً انحياز الى الذات!.