تداول الذاكرة

ثقافة 2022/07/19
...

 ناجح المعموري
نظرية «أرفنج جوفمان» الخاصة بـ «تقديم النفس في الحياة اليوميَّة» تعتمد مثلما أشار ديرار عبد السلام، على التفاعلات الاجتماعية الحاصلة في الحياة اليومية وهي تبنيها معايير للاجتماع والتواصل، كما نقلنا من قبل وسأحاول الاستفادة من كتاب «إيان كريب» عن «النظرية الاجتماعية - من بارسونز إلى معابر مازه لأنه درس بشكل جيد وموسع نظرية «ارفنج جوفمان» الخاصة بالتمثيل وهو  من حيث موقفه النظري في منزلة بين منظور مدرسة شيكاغو ونظرية الدور بشكلها الأكثر تنظيماً.
 
وكثيراً ما يصنّف منظور جوفمان بالمنظور المسرحي، وهو مصطلح يستعمله نفسه فالأدوار [أي التوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة] هي بمنزلة نصوص تقوم بتمثيلها سرديات اليومي الخاصة بمدينة أوروك، هي نتاج الأفراد والجماعات، والكهنة، والقادة، والملك، وهذه السرديات أنتجها الجميع وتومئ له وتدل عليه، ومن غير الممكن تجزيئ اليومي لفئة معينة من التي تم ذكرها. وربما يثار تحفظ حول الوقائع اليومية الخاصة بالمعبد، ويقال إنها نتاجه وحده، وكذلك الحال مع أحداث خاصة بالجماعات وسط المدينة. 
والجواب، لا يمكن عزل المعبد عن الأسواق وكلاهما لم يكونا بمعزل عن المؤسسة السياسية. الجزء ينتج يومياته والآخر ينتج تفاصيله، لكن التي تكون طاغية ومهيمنة، هي الأكثر استقطاباً للجماعات، مثلما هي الممثلة لمساحات واسعة منهم.
أما كلمة اليومي في بعدها العلمي، لا تكتسب المفهوميَّة إلّا ضمن فرع محدد من فروع السوسيولوجيا حديث هو سوسيولوجيا الحياة اليومية، لأنّ الاهتمام بالحياة اليومية كموضوع للسوسيولوجيا حيث النشأة بالمقارنة مع جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية، هذا فضلاً عن كون السوسيولوجيا نفسها كعلم، حديثة بالمقارنة مع فروع أخرى من المعرفة الإنسانية. يقول أرفينج جوفمان الذي يعد اليوم من أبرز الوجوه الأميركية المهتمة بالحياة اليومية «يوجد مجال حيوي لم يكن بعد موضوعاً للدراسة العلمية بالشكل الكافي، وهو المجال الذي توجده التفاعلات وجها لوجه في الحياة اليومية، هذه التفاعلات التي تبنيها معايير للاجتماع والتواصل». 
اليومي العام، والكلي، الذي يشمل كل مجالات الحياة وغير محددة في فصل من فصول المدينة، والمثير في وحدة اليوميات الخاصة بالمجالات العديدة التي أشرنا لها، إنّها تتكون وتتبلور وتتضح بتلقائية، وإذا كان داعما، فإنه بشكل غير مباشر، ويتحرك بهدوء وتلقائية ويشكل كليته التي لا يمكن تجاهلها [إن مجال الحياة اليومية مجال جد شاسع لأنه يشمل كل جوانب المعاش يومياً في كل أبعاده الانتاجية والسياسية والنقابية والثقافية والترفيهية.. ويمتد ليشمل التافه والعادي.. فمجال السلوك اليومي والذي قد تكون له قيمة أساسية في تفسير وفهم العديد من الظواهر].
نظراً لاتساع مقترح قراءة الملحمة من جديد «تداول الذاكرة» وما يكشف عن الخزان من تنوع كثير وتعددات، فإنه يغادر فضاء النقد الأدبي، والبلاغي ويذهب باتجاه النقد الثقافي المنفتح كثيراً على الذاكرة وما تومئ له من تصورات اجتماعية، سياسية، ثقافية، وتتمتع الذاكرة بمركز جوهري في مجالات العلوم الإنسانية المجاورة لعلم الاجتماع، وينفتح مقترح هذه القراءة نحو الدراسات الثقافية/ والشعبية، ودراسات الحياة اليومية التي أعني بها الأنشطة اليومية الشائعة الآن من آليات تواصل وتبادل.وجدت خلال هذا الاهتمام بأن هذه القراءة بإمكانها الاستفادة من مفهوم الهيمنة الغرامشي، لأن الذاكرة سيادة تفاصيل وتمركز يوميات، وهو شكل من الهيمنات التي تمارس سلطتها للامتداد والتشعب وذلك بوصف اليومي بوصفه ثقافيا/ اجتماعيا، سياسيا، كهنوتيا، لاهوتيا. 
ذهب النقد الثقافي إلى أن الهيمنة أكثر انتشاراً وأكثر تجريداً، كما أنها تسيطر على حياتنا اليومية، وعلى تصوراتنا، فهي عالم ما لا رجعة فيه. ويستعمل مصطلح التشبّع ليصف كيف تتخم حياتنا بمفهوم الهيمنة. فنحن على وعي أو في مقدورنا أن نعي الأيديولوجيات، وذلك أحد الأهداف الرئيسة للنقد الثقافي الماركسي، أما الهيمنة، أو معنى أكثر دقة السيطرة المهيمنة، هي عملية يصعب علينا اكتشافها، لأنها تنسل في كل شيء من حولنا من دون أن نلحظها.
أعتقد بأن تشارك الكل الموجودين في أوروك بإنتاج يومياتها، يجعل من الذاكرة ثنائية النوع، شفاهية، ومدوّنة، وبأن الشفاهي أكثر حضوراً من التدوين، لأنّ مساحته أكثر سعة من الكتابة، بسبب الغالبية المتسيّدة. لهذا تكون الهيمنة اكثر حضوراً. 
وبمنظور السيميائية البيرسية تنفتح أمامنا فرصة مقترح يفضي بالقراءة نحو فضاء أكثر عمقاً مع محافظتنا على المسعى المركزي الخاص بتداول الذاكرة. فاليومي المتكرر خاضعاً للسياق وتنوعاته بتشكل من مجاميع صوريّة وسط فضاء تتسيّد فيه الشفاهيّة، تتمركز صور المشاهد البصريّة التي تعني في الإعلانات المطبوعة أن لدينا أيقونات (تماثيل) وظواهر دالة ورموزاً. الذهاب نحو اقتراح تنوعات القراءة وتوظيف العديد من المناهج والنظريات يفتح تنوعات مجالية باتجاه اليومي المتشارك به كل الجماعات.
سبق لهنري لوفيفر صاحب الدراسات الكلاسيكية حول الحياة اليوميّة أن اعترف بالقول: بلغة واضحة وصريحة، فالغموض خاصية من خاصيات الحياة اليومية، يمكن أن تكون خاصية أساسية. بمعنى أن اليومي ليس مكشوفاً وعارياً على الدوام، بل هو مجال للإخفاء والتظاهر والنفاق والزيف والاستلاب غير المباشر عن المواقف والحاجات. يتضح ذلك حين نأخذ في الحسبان المكانة التي تحتلها اللغة في اليومي، واللغة محددة كل التحديد، ليصبح اللسان لا مجرد شرط للحياة الاجتماعيّة، بل نمط لهذه الحياة، بما يعنيه ذلك من إكراهات خاصة بكل نمط تسهم في تحديد الملامح الأساسية للحياة اليومية بهذا المجتمع أو ذاك.
لذا فهو مهتم ببيان الأساليب التي نسلكها لأداء أدوارنا كما لو كنا جميعاً نعمل مندوبي إعلانات لذواتنا. ونحن نستعمل محيطنا المادي مجالاً للتمثيل، تاركين مساحات للخلوة «وراء الكواليس» نلوذ بها طلباً للراحة من عناء التمثيل.. أن عمل جوفمان هو عمل وصفي: فكتاب «تقديم النفس في الحياة اليومية» ما هو إلّا تصنيف لوسائل لعب الأدوار وستراتيجيتها. وهذا يشير إلى جانب من طبيعة التفاعليّة من حيث هي نظرية فهي تفتقد الصرامة العلميّة ولا تستعمل الاستنباط المنطقي، بل تقدم لنا سلسلة من الأفكار التي يمكن للباحث أن يوظفها في عمله بصفتها توجيهات عامة.
بالقدر الذي اهتم به أرفنج جوفمان بالأدوار التي اعتبرها نوعاً تمثيلياً، متماثلاً مع الأدوار المسرحية، وهذه ملاحظة مركزية في نظرية جوفمان بما يخص التفاعلات الرمزية في نظريته الاجتماعية. وتنطوي على ملاحظة تشير بشكل واضح، مثلما سجله عالم الاجتماع «إيان كريب» حينما قال: المجتمع محادثة. التكوينات الموجودة في مدينة أوروك هي حوار دائم ومستمر. وأنتجت اليومي الكلي، المستمر، غير المتوقف، أو المتقطع إنه يومي عادي وتافه، وشيء لا يستحق الانتباه له، لكنها معاً لا يمكن التنكر لها، وحتى الذي قلنا ضده كلاماً غير جيد، تمنحنا اذا تأملنا ما في طبقاتها العميقة قيماً ومعارف، مساندة، تتآخى مع ما هو جيد، هذا ما يعنيه إيان كريب عندما قال المجتمع محادثة موظفاً أولويات ارفنج جوفمان عندما قال بالتفاعلات الرمزية والأدوار التمثيلية، والتي حددها حصرياً بالمسرحية. هذا يعني بأن اليومي، على الرغم من طبيعيته وتلقائيته ينطوي على شيء تمثيلي، مسرحي، تقليد لما سبق والرضا بالقيام بما قام به لاستمرارية العلاقات الاجتماعية النافعة عبر تراتبها وتراكمها وضمن التفاعلات الرمزية، تدخل في بوتقة الحراك العام وتفضي بالمحصلة الأخيرة باتجاه لتكون خميرة تؤدي الى احترام تام للمحادثات المجتمعية المؤشرة بالتفاعلات الرمزية الظاهرة والخفية، وأكثر ما يكون دائماً مستتراً هو الرمز الدال يمنح الشر القدرة على التأمل في ردود أفعالهم وللاستعداد لها في خيالهم. والرموز تمكننا من أن ننأى قليلاً عن الأشياء الموجودة في العالم وأن نجري عليها التجارب في فكرنا. أما العلاقة فهي بينة وظاهرة، ودائماً ما تظل التفاعلات الرمزية مع الفعل الاجتماعي. ومع أنّها ترى البنى الاجتماعيّة ضمناً باعتبارها بنى للأدوار بطريقة بارسونز نفسها، إلّا أنّها لا تشغل نفسها بالتحليل على مستوى الأنساق. إنّها تبقى اهتماماتها على مستوى وحدة الفعل الصغرى شأن نظرية الاختيار العقلاني، بين أنها لا تهتم بقضية الاختيار بين سلّم المفاضلات قدر اهتمامها بقضية تشكل المعاني، التي تعبر سلم المفاضلات عن نفسه بواسطتها.
توفر نظرية التفاعلات الرمزية فرصة متسعة للفرد، من أجل أن يلعب أدواره المسرحية، أي التمثيلية، فكل ما يقوم به الإنسان تمثيلي غير منقى فها هو يومئ لغيره، لأن الكائن في مراحل من حياته تقليد لغيره. لذا قدم عالم الاجتماع هربرت بلومر مختصراً مفيداً من التفاعلات بثلاث نقاط هي الإنسان، يتمتع بحرية واسعة وارتباطاً بما تعنيه بالنتائج اليه، التي هي المحصلات الناتجة عن التفاعلات اليومية وهذا لا يظل ثابتاً، بل يخضع باستمرار للتغير اثناء تداولها ويحوز منها الانسان ما هو راغب فيه، ويترك ما هو غير راغب به.
يمكننا الإقرار مع جوفمان بأننا نقوم بالتمثيل، غير أننا أكثر من مجرد ممثلين وحسب. وحتى حينما نتعامل مع المعاني والرموز، فإن التفاعلية الرمزية تقلل من تعقيد عملية صنع المعاني والرموز
تلك.