هل امتلأ الزمان في رواية المئذنة البيضاء؟

ثقافة 2022/07/20
...

 دعد ديب
يعرب العيسى في منجزه الأول «المئذنة البيضاء» الصادرة عن دار المتوسط لعام 2021 لا يغادر فيها أجواء عمله الفعلي وهو الصحافة، ففي حالة استقصاء صحفي يعثر على بطل روايته الذي حملت حياته ثلاثة من الأسماء «غريب الحصو- مايك الشرقي – الشيخ الغريب» وهذا الأخير الذي تحول إلى أسطورة لمن سمع عنه أو من التقى به يوما أو حتى عرف من عرفه. 
في روايته التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2022 ينسج يعرب العيسى من حكاية المئذنة المنارة «المئذنة الوحيدة التي لا تتربّع فوق مسجد ما» ذات البعد التاريخي العريق خيوط سرديته في خطوات معدودة فيما بينها وبين الباب الشرقي، المكان الذي ارتحل منه بطله وعاد إليه ليكون البداية والمنتهى، فالقوس الذي قذفت به إلى معمعة الحرب اللبنانيَّة احتاجت ست وثلاثين سنة لحركة ارتداديَّة تعيده لنقطة انطلاقه ليكون مسرح رهانه الأخير.
الأسماء الثلاثة غطت مراحل حياة هذا الكائن مجتمعة بدءًا من مدينته دمشق التي لفظته بقسوة عارية عن الشفقة ليلجأ بعدها إلى بيروت، بيروت التي تمزقها الحرب الأهليَّة ويطل من خلالها على العالم السفلي في قاع المجتمع بكل فحشه ومجونه وارتكاباته وجرائمه الظاهر منها والمستتر، عوالم بيوت الدعارة وأندية القمار وتهريب المخدرات، الشركات والمصارف وأجهزة الاستخبارات، الكنائس والمساجد والزوايا الصوفية.
 ليكشف الغطاء عن دهاليز الفساد السياسي والاجتماعي وخفايا عمليات تجارة المخدرات والأذرع التي تقف وراءها، فضلاً عن أساليب الدعارة حيث تجارة الجسد أسلوبًا خاصًا للحصول على أسرار لها أثمان في عالم البزنس والسياسة والاقتصاد، ومنها تحاك المؤامرات والدسائس وتوزيع المناصب والمكاسب، وهي من تغطي وتصنع وتمول تلك النجوم اللامعة التي نراها في السياسة والفن والإعلام، فما من إمكانية لنجاح عفوي لأحد أو مسيرة حقيقية لمن تراهم يتسلقون قمم النجاح في أي مجال ناهيك عن الطريقة التي يحدد فيها المال المناصب والسياسيين والمواقف والبطولات.  
لا يختبأ السارد وراء أية أقنعة في تظهير عمله فهو الراوي العليم الباحث عن شخصيته الرئيسة في العمل، إذ تتحرك محطة السرد في الغالب بأسلوب كرونولوجي تتابعي من الوراء إلى الأمام من دون تقطعات أو حيل سردية متجولة في الزمان، فقد جعل المفاصل التاريخية إطارًا للأحداث الجارية في العمل مثل الحرب الأهلية اللبنانية -اتفاق الطائف- احتلال صدام حسين للكويت وبعدها تحريرها – خروج القوات السورية من لبنان- الاحتلال الأميركي للعراق- الزلزال السوري، حيث المصالح والاتفاقات تجري كلها وراء الكواليس وتأخذ لبوسها العلني المغاير في الغالب بما يخالف المشهد البادي للعيان، وقد وضحه بعدة أمثلة على غرار توقيع استجرار كميات من النفط لبيع عشرة ملايين ليتر من المازوت بالسعر السوري المدعوم للنائب المناضل ضد النفوذ السوري في لبنان، ومثال آخر تسوية الأمكنة التي يريد الاستيلاء عليها مايك الشرقي في شرق الباب الشرقي تحت يافطة الاقتتال والعناصر المسلحة التي تتشكل اليوم وتختفي غدًا. 
 ليس جديدًا توظيف قصة فاوست في الأعمال الأدبية وجدناها في الأدب العالمي عند ميخائيل بولغاكوف وعند يوهان غوته وآخرين، كما تركت ظلالها في أعمال كتاب عرب كذلك، ولكن يعرب العيسى أعطاها هنا صبغة محليَّة من موروثنا الميثولوجي في استحضار الذاكرة الشعبية في قصة يأجوج ومأجوج، ورجوع المسيح ليقابل ويقاتل الدجال عند قرب اليوم الآخر، فعندما تزداد الموبقات والخطايا والرذائل تلك نهاية الزمان كما تقول الحكاية ويكون اللقاء في ذلك المكان من دمشق شرق الباب الشرقي، وما ينوي مايك الشرقي أن يفعله هو الوصول بالمعاصي لحدها الأقصى من أجل ردم المسافة وتقريب هذه النهاية والتعجيل بحدوثها، أي زيادة الشر للتعجيل بحدوث الخير فهو يكثف فعل الشر لتبزغ بذرة الخير التي يريد.
لعلها سطوة المال دفعته للتفكير بالحصول على كل شيء، فهو بعد أن أصابه الملل  من الجزء الأسفل من الجسد من متع الحياة المادية يريد أن يبدأ من الجزء الثاني بالبحث وتجريب متع أخرى، لكسب الحالة الروحية والعقلية معًا، حيث الاعتقادات الدينية واليقينيات الفكرية التي تسكن الجانب العلوي والأسمى من الجسد، ولهذا يوظف الشيخ والباحثة الأكاديمية والأديب لخدمة هذا المشروع ليترك القارئ في  حبائل الحيرة ولجة السؤال وعدم اليقين، هل هو حقيقة تواق لفعل الخير أو هي ترجمة فعلية لقصة فاوست في استرجاع روحه من الشيطان؛ أم هي الصورة الميتافيزيقية التي يريد أن يلون بها وجوده في بلده حيث يجتمع له المال والتاريخ والأسطورة ويستحوذ على كل شيء، يبغي الخلود في الذاكرة بعد أن حصل ونال كل شيء حيث تبدأ الأحداث وتنتهي في ذات المكان الذي تحول لأسطورة الشيخ الغريب، وللأسطرة التي يتوخاها متعتها أيضًا وهو الذي ذاق المتع الدنيوية قاطبة في طموح الشخصية غير المنتهية التي تتحرك شرًا وخيرًا لدرجة نشارف على محبتها مجسدًا عبارة فاوست «أنا جزء من تلك القوَّة التي تريد الشرَّ دائماً، وتفعل الخير دائماً».
فأن نتعاطف مع مايك الشرقي ليست تهمة للعمل وإنما دخول في الأسباب التي تؤدي إلى نتائجها، فالشر ليس فطرة لدى الإنسان وغريب المطرود من طفولته ومن غرفته المستأجرة والمجرد حتى من حذائه المهترئ، ظروف شخصية كهذه وضعتها الأيام تحت رحى الزمان  يصبح الحديث عن القيم لديها نكتة سخيفة، فمن يرى من بعيد ليس كمن عاش وعانى وتشرّد، وعندما امتلك من السطوة والمال والجاه الشيء الكثير طفق يبحث عما ينقصه ويسند روحه وهنا كانت (عايدة الراهبة التي تزوجها ولم يقربها – ورفقة الطفلة التي تبناها) ولكن هذا المظهر الغريب عنه في عمل الخير والذي لم يحصد نتائجه ولم يوفق به ترك ندبة في قلبه حرص أن يرممها، وهو في محاولته ترميمها لم يخرج من شخصية العقل الشيطاني المدبر الذي يخطط لكل شيء، ولعلنا نرى عمق العمل في هذا التلاعب الكامن في الذات العميقة للشخصية التي تفتح باب الاحتمال وتخاتل القارئ بحالة الارتياب بالحالة الأخيرة التي وصل إليها بطل العمل، هل هو نادم فعلًا ويعمل خيرًا حقيقيًا، أم هي الرغبة بامتلاك مدينة حاضرها وماضيها، أو هل يحاول نسج أسطورة المكان الخاصة لسلاسة مشروعه الجديد المرتبط بالمارد الصيني. 
يقول يعرب العيسى في أحد لقاءاته أنا حكيت الحكاية ولست مطالبًا بتفسيرها، نعم هنا زبدة القول التي تفتح باب التأويل والفهم المختلف وتضعها بين يدي المتلقي في لبس المخاتلة التي أوقعنا بها، بين رفضنا وقبولنا لسلوك الشخصية الرئيسة، وخاصة في صيحته الأخيرة وهو يزمع للإياب لذلك المكان الذي نبذه ضعيفًا ومهزومًا «امتلأ الزمان يادمشق» فامتلاء الزمان أن تصل الكوارث والفجائع والمظالم إلى أقصاها، لحدها الأعظمي وتطفو وتفور وتنسكب، هي خميرة الانتقال إلى واقع مغاير فهل
يحدث؟؟!!