محمّد طرزي يعيد للفتى صوته

ثقافة 2022/07/20
...

 نبيل مملوك
في روايته الجديدة «سرّ الطائر الذي فقد صوته» الصادرة عن الدار العربيّة للعلوم ناشرون خرج محمد طرزي عن منهجه الأساس حيث التاريخ والحروب المجبولة بالرومانسيّة والإنسانيّة والقيم نحو عالم جديد.. عالم الفتيان، الفرد المقيّد في مجتمعاتنا بالقيم والمصاعب.. وقد أظهر طرزي من خلال شخصيّة كنان الكاتب الناشئ والقارئ الحالم جملة تحديات يواجهها الفتى خصوصا في مجال الكتابة المرتطمة حكما ببقعة المجتمع.
 
 
الشخصيّة وأثرها في المجتمع
اذا كان روّاد المدرسة السلوكيّة الذي قاربوا نظرية الميل لدى الفرد من خلال «عبّر لي عن حركاتك أقل لكَ من أنت» فإنّ الكاتب قد أظهر من خلال شخصيّة كنان الهادئة الساعية للمثاليّة والمحتفظة ببراءتها الوجه الآخر لهذه النظريّة، وذلك من خلال سقف الأحلام الذي وضعه الفتى لذاته أولاً «ارتسمت السعادة على وجه كنان، فأن يوصف بالكاتب هو جلّ ما ينشده وكل ما يطمح اليه...»(ص.7). 
وثانيًا من خلال نبرة إدراكه الحسيّ العالية وقدرته على طرح الأسئلة المكثفة والملاحظات الدقيقة «وقع بصر كنان على شعار مهنة الصيدلة... حرّك شفتيه كي يسأل عن كنه الشعار... « (ص.6) «، لاحظ كنان أن ماجد قد طوّق معصمه بسوار أبيض...»
(ص.16). 
أمّا العامل الثالث المسوّغ لهذه الشخصيّة فهو الفئة التي احتكت بها الشخصيّة والتي تمثلت بصاحب مكتبة البؤساء والكاتب فؤاد نجّار ومدى قدرة كنان على توظيف موهبتي الانصات والنقاش أمام كلا الشخصيتين «هو صاحب قليلة ودمنة، كتاب ينطوي على حكايات وأقاصيص ...»
ص.21 ). 
هذه العوامل التي بنى طرزي على أساسها الشخصية الشابّة كنان، لم تحدث أي خرق اجتماعيّ بقدر ما أحدثت تغييرًا وشبه تحوّل فرديّ، أي أن طرزي فضّل أن يحصر الشخصية الشابة في إطارها المتكون الواقعي على إعطائها الطابع الثوريّ المتمرّد، وآية على ذلك ما حدث لكنان من ندم وأسى إزاء الشرخ الحاصل بعد حادثة التنمّر على ابنة فؤاد نجّار «أحس بانسحاق تام، حتى أن كلمة الآن بدا رنينها أشبه بكلمة أبدًا» (ص.46)، هذا القلق والندم الذي دبّ في ذات كنان ما هو إلّا نقطة بداية لتحوّل واعادة حسابات سريعة لما أحدثه الوعي تجاه الآخر «لا أستلطفك؟! أنتِ ابنة كاتبي المفضل»
(ص.53).
 لقد أراد محمد طرزي أن يوصل من خلال شخصيّة كنان فكرة أن داخل كل فرد وتحديد الفرد قيد التكوين مجتمع يجب ترتيبه وإصلاحه، وإن استبدال النكسة لدى الفتى يكون من خلال مغامرة أو انطلاقة بعيدة عن الخسارات، وما رحلة البحث عن القلم «الأسطوريّ» المسروق إلّا دليل، وما الحلم بنشر عمل قصصي إلّا دليل
ثانٍ. 
نجح الكاتب إذن بإظهار الشخصيّة والتعثرات التي ترافقه لكن السؤال الموجّه للكاتب، لِمَ غاب الحس المتمرّد عند الشخصيّة اليافعة؟، خاصة وأن المرحلة البيولوجيّة التي مرّ بها كنان لا تخلو من الانفعال والعصبيّة وغيرها من اشكال الاستنفار؟ وهل كان الهدوء هو الوجه الآخر
للتمرّد؟.
 
إدارة النّص والحبكة 
خرج  صاحب «ماليندي» فإذن من خلال نصّه عن الصورة التي يعرف من خلالها نحو تجربة مختلفة وليست بالسهلة، خاصة وأنها لا تخضع للمعايير النقديّة ذاتها التي تخضع لها الرواية العاديّة، فبعد قراءة النص لا بدّ لنا من طرح جملة أسئلة، هل المتلقي الأول بعد الكاتب هو الفتى؟ أم المجتمع الحاضن للفتى؟ أم
الطرفان؟. 
يرى معظم الساردين أن السرد هو العصب الأساس لأي عمل روائي ويعللون حجّتهم بأن الأسم الآخر للروائي هو السارد، لهذا نرى بأن طرزي قلّل من الحوارات واعتمد على السرد الممزوج بالوصف، ممّا أبطأ ايقاع النّص وحوّله إلى مشهد مكثّف مبني على الملاحظة ممّا حوّل القارئ من محلّل ومستنتج ومستنبط للأفكار إلى متابع لما يحدث، أي أن الكاتب فضّل جعل كنان شخصيّة مغامرة مستكشفة على أن تكون شخصيّة متسائلة انفعاليّة، أي بشكل آخر طوّقت الشخصية بالمثالية والارتطامات الطفيفة.
وهذا يضعنا أمام سؤال آخر نوجهه للكاتب: ألم يكن توسيع رقعة الحوار هو الخيار الأفضل خاصة وأن مساحة البوح لدى الفتى في «مجتمعنا» دائمًا محدودة؟ 
الآخر المتلقّي لأفعال الفتى
 لعلّ المكان الأساس الذي قصده الفتى كنان كان مكتبة «البؤساء» الاسم الذي ارتدته المكتبة ربما إشارة إلى اسم الرواية الشهيرة لفيكتور هوغو، أو لأن الواقع في عالم القراءة جعل حرّاس الكتاب بؤساء، في كلا الحالين لم يغب دور الوعظ والعطاء عن الآخر المتلقي لافعال كنان، فأمين المكتبة كان يعامله كأنه الند وهي إشارة أراد الكاتب ايصالها في سبيل التعاطي مع الفتى ومساعدته على تذليل العقبات ومعالجة مشكلاته «القارئ النهم يا بني ليس من يقرأ كأنّه يعدو... »(ص.12). 
صيغة النداء «يا بني» لم تكن سلطويّة بقدر ما كانت تحمل من الودّ والتذكير ولفت النظر، أمّا عامر نجل أمين المكتبة الذي أغدق الكاتب الشاب بالاقتباسات فقد كان بدوره الآخر الناصح «على الكاتب أن يبتعد عن نصّه مسافة زمنيّة .... «
ص.24).
ولعلّ غياب الأهل أي الأب الصيدلاني بشكل خاص عن خط الوعظ والارشاد يحمل دلالتين: الأولى هروب الفتى نحو المجتمع والتجربة والمغامرة، أو انسلاخ الفتى بارادته عن الأبوّة وهذا ما يمكن تسويغه من خلال دخول كنان الى صيدليّة والده، وبعدها من خلال تجلي دور الأب فقط في اللحظات السعيدة والخواتيم
 الإيجابيّة. 
تخلّى طرزي عن عنصري الحركة والدراما في نصّه وأوصل السلوكيات الفتيّة بهدوء وواقعية من خلال كنان، مما أوقعه في دائرة تساؤلات، أكبرها هل كان لا بدّ من ولادة هذه اليوتيوبيا للوصول الى الحلول وتلقي المغزى؟ ربّما تكون الاجابة المبدئية من خلال النقاط التي انطلق منها كنان والتي مرت بمساءلة ذاته وصولاً الى الاحتفاء.. بعودة الصوت.. الصوت الخالي من أي انسحاق
 أو ذنب.
 
كاتب من لبنان