الشعرُ بعيداً عن دور النشر

ثقافة 2022/07/20
...

 طالب عبد العزيز 
 انتظرت أربعة شهور قبل أن يُعلمني الناشرُ بموافقته، على نشر كتابي الشعري الجديد. ما كنت مستاء أو ملحفاً عليه، فأنا أعرف ماذا يعني قيامُ دار للنشر باصدار كتاب شعريٍّ اليوم، في ظل سيادة وهيمنة السرد، شبه المطلقة، هذه الكذبة التي مررّت على الكاتب والناشر والقارئ، والتي نتج عنها عزوف القارئ عن تتبع الشعر وتعاطيه، مع يقيني بأن العزوف هذا لا يتحمله الشعراء وحدهم.
 
إنما هو نتاج أزمة الثقافة بعامة، والرؤى القاصرة، أو عوق ثقافتنا التي تتخبّط، راكضة، لاهثة وراء الشائع والظاهر من جبل المعرفة، إذا ما علمنا بأنَّ ليس كل ما ينشر سرداً هو محط عناية وتتبع القارئ، أو هو غاية المعرفة ومرادها، فهناك الغث الكثير، والهراء الغزير، الذي تستغيث به الأرفف، وتأبى الأيدي عن تناوله.
 لا شكَّ أنَّ هيمنةَ العلوم وإجهادَ العقل بالفلسفة والخوارزميات ونوءَ الإنسان بما تضخّه الماكنة الإعلاميَّة، فضلاً عن معاناته في محيطه وبيئته، وضغوط الحياة الكبرى، وإذا شئنا أضفنا لذلك تلوث الأسماع والأبصارَ بالشائن والقبيح من أفعال السياسة، وما ينتج عن ذلك من الكوارث والحروب، وهذه الأوبئة، التي باتت تقتصُّ من حياة الإنسان، هذه الطامة التي لا نجد قوة حقيقية قادرة على استردادها خارج الشعر والأغنية والموسيقى، لا بوصفها ترميماً لذاته، أو قطع غيار لروحه الممزقة، إنما بوصفها المنقذ والمخلص، من ذاك كله، نقول ذلك، وإن بدت جملتنا هذه عند البعض ضرباً من الخيال.
  لكن، عن أي شعر وأغنية وموسيقى نتحدث؟ فأنا شخصيا، قد يمضي الشهرُ والشهران من دون أنْ يستفزّني الشِّعرُ، قراءةً أو كتابةً، وأبثُّ شكواي زملائي، فيرون حَزَني وضَعْفي، وهو شعور مؤرِّق لمن عرفه، وسط الشعور الممض هذا لا أعدمُ أنْ تأتي الريح رطبةً، محمّلةً أحيانا، فيهبُّ سانحٌ جميل من هنا، وبارحٌ بغيض من هناك، لكنْ، لا يحدث شيء، هناك جدران صلدة قاسية تحول من دون الاستجابة، وتجهض كل حلم في قصيدة، لذا، أجدني متعللاً بما أجاب الأصمعيُّ به سائله، لماذا لا تقول الشعر، فقال: «الذي أريده لا يؤاتيني، والذي يؤاتيني لا أريده، أنا كالمِسنِّ اشحذُ ولا أقطع». 
هناك من ما زال يعتقد بأنَّ الشعر مؤاتيه ما أراده، وهو حاضر على لسانه، يقوله متى شاء أو شاءَ غيرُه، وفي هذه وتلك أوهام من ظلَّ على تعريفه القديم للشعر، وارتبطت غاياته بما دأبت العامّة على فهمه، ولم يرتقِ الى المعاني العظمى، التي انفرد بها، من دون غيره من صنّاع الكلام، بعد أن تنازل الشاعرُ عن جملة ما كان له، ووهبها رخيصةً للحكيمِ والساردِ والخطيبِ والمتحدثِ وسواهم. 
  لكن، ما الذي جعل من شعر كافافي خالداً؟: «الشعر الذي تنقصه العذوبة البلاغيَّة، والغنائيَّة المعهودة، وقصائده التاريخيَّة على الأخص أقرب إلى الموضوعات النثريَّة» بحسب السكندري تيموس مالانوس، ولماذا أغفل جبرا ابراهيم جبرا قراءة شعر نزار قباني ربع قرن، ولم يعده بالأهمية التي تنبّه اليها متأخّراً مع عديد النقاد؟ ولا نعرف عدد الشعراء الذي أهملوا في التاريخ، لظرف اجتماعي وسياسي ربما، قبل أن يُنفضَ الغبار عن تجاربهم. وهل نقول بأنَّ اليوت سيظل شاعراً تقليدياً لو لم تقع الأرض الخراب بين يدي أزرا باوند؟ في دورة الجمال هذه سنفقد الكثيرَ من الشعر، وسيغضُّ الناشرون أعينهم عن المزيد من الكنوز الشعريَّة. نعم، قد تصحُّ مقولة إننا قرأنا النسبة الأعظم من الإبداع الكوني المكتوب، في الشعر والرواية والفنون الكتابية الأخرى، وما لم نقرأه بعدُ بات أدنى منه قيمةً، لكنَّ هذا لا يعني إيقاف رحلة البحث عن الشعر أو التوقف عن تقصيه في منابته.
 في مقابل العزوف هذا، يمكننا رصد ظاهرتين شعريتين اسهمت صحافتنا الثقافيَّة ومواقع التواصل مع دور النشر في شيوعهما داخل ثقافتنا مؤخراً هما (تشارلز سيميك وتشارلز بوكوفسكي) والشاعران أميركيان، الأول من أصول يوغسلافية، فيما ينحدر الثاني من أصول المانية، ويشكلان تجربتين مختلفتين، فعالم سيميك الرصين الى حدٍّ ما، والذي يتميز بالنّقاء والأصالة، يختلف عن عالم بوكوفسكي، الذي حطم الجنس الأدبي، ووَضع على الورق ما يحدث في الواقع الذي ينتج الانفعال، عن طريق استخدام لغة بسيطة دالة خالية من زخرفة الأسلوب، في الوقت الذي يتحدّى شعر سيميك التصنيف البسيط، ويعكس عددٌ من قصائده توجّهاً سوريالياً ميتافيزيقياً، وترسم قصائدُ أُخَر له  صوراً واقعيَّة قاتمة عن العنف واليأس.»* على خلاف ما يكتبه بوكوفسكي الذي تفلت اللغة عنده من سجنها، باعتمادها التواضع، وبناء الجملة والأسطر والفقرات والفصول القصيرة. وإذا كان الشاعران رافضين لطبيعة الحياة في اميركا فيصلح أن نقول بأن سيميك كان مهادنا، أو محايداً في رفضه، على العكس من موقف بوكوفسكي، الذي شنّعها
ورفضها. 
   قد تجد دور النشر الحجة بالغةً في عزوفها عن نشر كتب الشعر اليوم إلا أنها تقف عاجزة أمام شموخ المئات من كتب الشعر لهوميروس وفرجيل والمتنبّي والمعرّي وبودلير وإليوت وسان جون بيرس والسيَّاب وسعدي يوسف وسواهم، تلك الأرفف العالية، غير المزحزحة عن عليائها، وبما يؤكد على أنَّ الحاجة للشعر، الشعر الحقيقي، غير المرهون بلغة وغرض وشكل معين ما زالت قائمة، حيث لا تصحُّ مقولة الزمن في الشعر، لأنَّ الشعر الحقيقي يعمل خارج الزمن، واذا كانت مكتبة الكونغرس قد اختارت سيميك (شاعر الولايات المتوج) سنة 2007 بناءً على الوصف أعلاه في شعره، فها هي تتوج الشاعرة أدا ليمون (46 سنة) «الشاعرة التي يقع شعرها على الحافة المغايرة، في مشهد الشعر الاميركي، عبر لغة طافحة بالطبيعي والتلقائي والبصري.. شعر يعيدنا الى الطبيعة، واستحضار المشهد الرعوي، مقرونا بغنائيَّة ورومانسيَّة لم تعد مفتقدة في كتلة الشعر الاميركي فحسب بل باتت نادرة، ربما.» ** 
 
* برغوث الحب والفزّاعة وقصائد أخرى لتشارلز سيميك –رصيف 22- ترجمة محمد تركي النصار  
**  أدا ليمون - شعر تنتدبه الطبيعة- القدس العربي - صبحي حديدي