جبر علوان.. هيمنة اللحظة اللونيَّة

ثقافة 2022/07/20
...

  د. نصير جابر
 
أتساءل دائما وأنا أتأمّل ما يصل إلينا مصوّرا من لوحات الفنان جبر علوان أو ما أراه منها في اللقاءات المتلفزة معه، كيف يمكن لذاكرةٍ ما أن تحتفظ بكل هذه التفاصيل الدقيقة لتدرّجات اللون وتجلياته لتعيد نسجه بدقّة متناهية على قماشة اللوحةن وأقصد هنا تفاصيل اللون ودلالاته بوصفه طاقة تعبيريَّة عن حالة وجوديَّة عاشها أو يحرّضُ على عيشها الملوّن والرسام، إذ سيجد من يرى أيَّ لوحة له مجموعة هارمونيَّة من الألوان المبتكرة التي تأخذ المتلقي إلى ذاكرة (ما) وحالة (ما) ومن ثمّ تسحبه إلى لحظات لونيَّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا في زمان محدّد ومكان معين، حيث تكون الفكرة هي اللون واللون هو فكرة، فاللون خاضعٌ هنا إلى هيمنتها وقمعها الجميل، ويتشكّل على وفق تلك الفكرة ومعطياتها مهما كانت مجرّدة أو عصيّة أو نائية، ومن هنا وبغضّ النظر عن اعتساف التأويل الذي يمارسه الرائي يمكن أن نقول بكل عفويَّة أن علوان يؤسّس في كل لوحة إلى حالة من الوجد والجذب أو ما أحبّ أن اسميه الصفعة الواعية التي يريد منها أن تُنعش من يقترب منها فتسحبه جرّا إلى حيزها وتدور به ليدور معها في ملكوت لوني باهر، وهذا الجذب والوجد قد لا ينتمي إلى التصوّف بمعناه التقليدي الذي نعرفه ونفهمه بل هو- وهذا من المؤكد- أنه ينتمي إلى (الفن) والفن فقط حينما يحمل رسالة حقيقيَّة تُسهم بتغيير الإنسان من (حالة) إلى (حالة) ومن (شعور) إلى (شعور) آخر، والمفترض أن هذا التبدّل والنقل ليس وقتيَّاً، بل يجب أن يدوم حتى النهاية وهذه هي مهمَّة الفنون الجادَّة بفروعها كافة.
 في لوحة له تتحرّك المرأة وكأنَّها الغصن المرهف الذي يميل مع الريح فينتشر اللون الأخضر بتدرّجات متناغمة مع إيقاع الجسد السابح في نشوة الرقص، الأخضر يتكاثف جداً ثم يمتاح لوناً آخر من لون بشرتها لترتسم هالة ذهبيَّة على مقدمة الفستان الذي يكاد يكون هو الفضاء كله، هل هي امرأة حقيقيَّة (موديل) أم مجرّد رمز لحياة صاخبة أراد أن يبرزها الفنان ضمن محيط لوني مهادن، المرأة الخضراء تبدو وكأنَّها تتكوّن من أرضيَّة اللوحة حيث الكثافة تُرسّخ هذه الفكرة، تبدو مغروسة في غرينها الأخضر ولكنَّها تنمو نحو الأفق الشاسع كلّه، وتعدّ بنساء أخر قد يبزغن في أيِّ لحظةٍ، فلو أطلنا النظر والتأمّل سنجد براعم مفترضة لنساء في طور النمو أيضاً، ومثلها امرأة أخرى، لكنَّها هنا تراقص رجلاً أو شبحاً فهو أقل حضورا منها ورُسِم بلون أسود شاحب من دون ملامح أو تفاصيل، وجاء وجوده هنا وكأنَّه مسوّغ لهذه الحركة المرنانة جداً، حيث تمدّد الجسد واستطال وكأنَّه (نوتة) موسيقيَّة خرجت من وترٍ فقد السيطرة على سُلّمه، الأحمر القاني يترشّح من خلال مشاعر المرأة ويناغم خطوتها الطويلة، وهي تحاول أن تتناغم مع لحظة النشوة التي تعتريها، أما ملامحها فتظهر وكأنَّها ساهمة غارقة بفرح حقيقي، بينما تغيب ملامح الرجل مثلما يغيب الحد الفاصل بين يدها ويده، وكأنَّهما امتزجاً في  مدار واحد وجسد واحد، في عمل آخر مبهر له نرى فتاة تطفو في حيز أزرق أو ربما تطير تنظر نحو باقة ورد أو هي تمسك بها لا فرق، ملابسها توحي بأنَّها راقصة بالية أو مجرد فتاة تعشق الحياة تحاول أن تنهض من تحت لجة تُغرقها لتستنشق مع زهورها هواء الحرية، والمرأة دائما تظهر في لوحاته في صورة مخمليَّة، فهي الترف الذي يليق بها وتليق به حيث يجب أن تكون مؤنثة وتؤنث المكان الذي  يتملّكها وتتملّكه، أي أن حضورها ليس رمزاً بقدر ما هو واقع يحاول الرسام أن يجعله أقرب إلى السحر والخيال.
جبر علوان المولود في الحلة عام 1948 أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في العام 1965، ثم تخرج من معهد الفنون الجميلة في العراق العام 1970، وسافر بعدها إلى روما، وعاش هناك منذ 1972، ليحصل بعدها على دبلوم في النحت من أكاديمية روما للفنون الجميلة، أقام معارض عديدة في عواصم مختلفة وما يزال من أهم الأسماء التشكيليَّة العراقيَّة والعالميَّة وله حضور فاعل في مختلف المحافل التي تعنى 
بالتشكيل.