أدونيس.. مرجعاً شعريَّاً استشاريَّاً

ثقافة 2022/07/22
...

 ريسان الخزعلي
                                                                                                       
( 1 )
رغم أن تجديد وتحديث الشعر العربي في أربعينيات القرن الماضي قد تم على أيدي الشعراء العراقيين: بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، بلند الحيدري، ومن تبعهم لاحقاً بتميّز، سعدي يوسف مثالاً، إلّا أن الشاعر/ أدونيس/ كان يقف في الطرف الآخر متلقياً ومتفاعلاً وناصتاً لما حصل من تحوّل شعري/ فني غير مسبوق في الشعرية العربية، واستطاع بفعل موهبته وثقافته أن يجعل من هذا التحوّل فتحاً إضافيّاً لشعريته العالية؛ إذ سرعان ما أنتج قصائد تعتمد الشكل الجديد وبتصعيد فني متواصل يتوازى مع ما أنتجه الشعراء الأربعة ويتجاوز أيضاً في الكثير مما أنتج، وقد رسخ اسمه وحضوره في مشهد الشعر العربي الحديث.  من هنا أصبح محط انتباههم واهتمامهم. ورغم أن عُمْرَ أي من الشعراء الأربعة يفوق عمْرَه بما لايزيد عن أربع سنوات، ورغم ريادتهم التجديديَّة، نجد أن بعضهم، السيَّاب أنموذجاً، يستشيره في ما يكتب من قصائد ويعرضها عليه لإبداء الرأي، والتصحيح أحياناً، كما أن الشاعر سعدي يوسف يعرض عليه مجموعته (قصائد مرئية) ليكتب عنها مفتتحاً تقديميّاً. وللمقارنة العمْريّة أيضاً، فإنَّ سعدي يوسف، أصغر عمراً من أدونيس بأربع سنوات.
 
( 2 )
مما تقدّم، يتضح بأن أدونيس كان مرجعاً شعريّاً استشاريّاً معتمداً، وهنا سأذكر مقتطفات من رسائل السيّاب إلى أدونيس كما جاءت في كتاب (رسائل السياب – جمع وتقديم ماجد السامرائي، دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت 1975).
1 - لديَّ قصيدة سبق أن حدّثتك عنها في رسالتي السابقة وستجدها مع هذه الرسالة. سبق أن حدّثتك عن بعض الأغلاط التي فيها ورجوتك أن تصححها بما عُرف عنك من ذكاء شعري. السياب، بغداد في 23/7/ 1960.
2 - تحت يدي، قيد اكمال الكتابة الآن، قصيدة أظنها ستكون لا بأس بها. فإن جاءتك القصيدة بعد حين، أطلق فيها قلمك چازّاً شاطباً. تذكّر هذا. السياب، بغداد في 9/1/ 1960.
3 - أما قصيدة (نبوءة في عام 1956) فرأيي أن يُحذف منها المقطع الرابع برمّته...، وأنتَ حرّ في أية أبيات أخرى. بدر، بغداد في 25/ 9/ 1960.
 
( 3 )
أما سعدي يوسف الذي وضع مجموعته (قصائد مرئية) بين يدي أدونيس، ليكتب عنها، إلّا أنّه كتب مفتتحاً تقديميّاً، تم تثبيته على طويات غلافي المجموعة، وهذا نصّهُ:
«قصائد مرئية» لسعدي يوسف أليفة الموضوع، لكنها طريفة التعبير، ذلك أن إحساس الشاعر بالحياة وأشيائها أصيل، نفّاذ، غني. ومن هنا يجيء تميّزه بين شعراء جيله العرب الذين عاشوا تحت سقف واحد من الأفكار والتيارات السياسيَّة والاجتماعيَّة. إنّه ركن دافئ، على حده، في بيت الشعر العربي الجديد.
وسعدي يوسف شاعر قضية وموقف، قُدّر له أن يكون شاهداً وممثلاً في أخطر مرحلة من مراحل النضال العربي وأبهاها، إذ تتم فيها حركة من التغّير والتحوّل على مستوى المصير، لم يُشاهد العرب مثيلاً لها في تاريخهم. في هذه الحركة ينصهر الشاعر متّحداً بشعبه وتطلعاته اتحاداً صميماً تذوب في شفافيته وصدقه الهموم السياسية والاجتماعية بحيث تتناغم الذات والموضوع، ويتآلفان، ويتفجران معاً في غنائية شخصية آسرة، تصل إلينا نحن القرّاء، حاملة معها مرارة الواقع وحرارة المستقبل. فالشعر في «قصائد مرئية» طقس غنائي حزين يتصاعد في اتجاه الآفاق التي تُخبئ نجمة الفرح، إنه شعر يُمجّد الحياة فيما هو يدل على الموت ويعانقه. شعر أعراس وأعياد فوق بساط من الواقع، فاجع أسود. شعر سفر دائم في الداخل والخارج، من أجل استحضار عالم جديد ما يزال عصياً على الحضور. وهو شعر يوقظنا ويحرّكنا بكلمات ترقد، من حرارة وألفة، تحت وسائدنا، وبين أذرعنا، وفي قلوبنا. هذه الواقعة الغنائية التي تتردد بين طرفين: كآبة الأيام الحاضرة وفرحة الأيام الآتية، ذات خصوصية عراقية في تجربة سعدي يوسف.
فهي إذ تعكس حياة العراقي – شاعراً وعاملاً وفلاحاً ومناضلاً، وتصوّر عذابه وحسرته، أمام الأسوار المضروبة حوله، وتغنيها بتفاؤل يقيني إلى درجة الطفولة والسحر، تعكس، إلى هذا كله، التعلّق بالعراق، الوطن والأرض، «مبدع الانسان»، كما يُعبّر الشاعر، حتى ليبدو العراق امتداداً في الذات لا في المكان، وحتى كأنّه وطن أعماق لا وطن مساحات. (انتهى مفتتح أدونيس التقديمي).
إنَّ المفتتح التقديمي هذا، رغم الإنشاء الطاغي والابتعاد عن الكشف الفني، إلّا أنه يمثّل قراءة موجزة لحياة سعدي يوسف الشعرية وطبيعة موضوعاته الأليفة المتواشجة مع هو يومي، والتي أشبعها تفصيلاً في أعماله الأخيرة بعيداً عن العراق في المنفى الاضطراري؛ والتي تبدو أحياناً بسيطة عابرة رغم الجهد الفني والصياغة الجماليَّة. ومرّة أخرى يؤكد أدونيس في كتابه (بيروت ثدياً للضوء) بأن شعر سعدي يوسف في السنوات الأخيرة كان الأقرب تشابهاً مع شعر (ريتسوس) المعروف بقصائده التي تمنح ماهو يومي مركزاً مضيئاً في دائرة تجربته الشعريّة/ الفنيّة.
 
( 4 )
أدونيس، لا يزال يستهوي الشعراء في المغرب العربي والشام وبقية بلدان عربية، لأن يكتب تقديماً أو مفتتحات تقديميَّة لأعمالهم الشعريَّة، وبذلك يتأصل القول: بأنَّه مرجع شعري استشاري..