الأبعاد الفكريًّة والجماليَّة لرؤى يوسف عبد المسيح ثروت

ثقافة 2022/07/22
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب
ما حسب الوسط الثقافي والفني الستيني والسبعيني في بلاد الرافدين يوما أن يوسف عبد المسيح ثروت (1921 ـ 1994) المولود في ديار بكر والناشئ في قرية الهويدر في ديالى، والدارس للثانويَّة في بعقوبة والمتخرّج في دار المعلمين الابتدائيّة والمعين معلماً فيها فترة من الزمن، والمحترف للترجمة والكتابة الفكرية والمعرفيّة والمحرر الأطول باعاً لمجلة الثقافة الاجنبيّة ـ سيموت مثل سائر الخلائق فجأة بلا نادبات او صوائح في مستهل الحصار الاقتصادي على البلاد، لأنهم بحق كانوا يرونه يتحرك في شارع المتنبّي او جامعة بغداد أو دار الشؤون الثقافيَّة أو اتحاد الأدباء أو خان مرجان، أثرا وأيقونة شاخصة يتلقفون كتاباته المترجمة، لكي تهديهم إلى دروب المسرح والدراما.
 
 تلك الدروب التي دلفوا إليها بلا أطواق نجاة سوى القليل مما تعلّموه من أساتذتهم في المعهد أو الاكاديمية أو ما جاءهم بالبريد السريع أو الآجل من مجلة المسرح المصريَّة، وبعض الإصدارات المترجمة الشحيحة الأخرى، كان ثروت بحق ثروة فكريَّة ومعرفيَّة زاخرة.. رجل قصير ينغم الكلام في أنفه قبل فمه وغير المعتني بهندامه، كأنَّه (جان دمو) الشعري، ولكنه يرتشف معتقه من مشارب النقد الحديث، مأخوذا بسليقة الترجمة أو هو عبارة عن ناعور يملأ جراره بالماء الثقافي الأجنبي ليحيي الأراضي البور، ويجعلها سهوبا خضراء وافرة، كان مأخوذا بعراقيته وبتقدميته وحبه للمسرح العراقي بلا حدود في جميع ندواته ومقالاته التي سطرها، وغدت ماركسيته اللينينيَّة مشوبة بأخلاط (ليبراليَّة) ولم تؤخذ من مرجعها السوفيتي، بل ترشّحت من موشورات غربية، فتراه في أحيان كثيرة منقسما وممزقا بين حبه للعبث واللا معقول والالتزام والوجوديَّة بعنوانات ماركسيَّة مكثفة مثل الحياة ذات ضبط جمالي عال: كالمجتمع، الطبقات، التأرخة... يسدلها كستارة تخفي شغفه بالطروحات المسرحية الحديثة، التي يراها بعين راصدة قد دهمت العالم بأسره ونحن عنها غافلون، حتى وإن كان مصدرها الغرب البرجوازي نفسه أو أميركا البراغماتية، وربما تطرف في تراجمه بعيدا عن الترجمة الحرفية احيانا بمشرطه الخاص ومداخلاته الشخصية وخزينه المعرفي باستنطاق النصوص على غير ما كانت عليه، ولا نظن أن هذا يدخل في باب (الخيانة) الأدبيَّة قدر تعبيره عن حرصه في تنوير قارئه، يشكل الراحل ثروت وحدة سرديَّة في المشهد النقدي المسرحي العراقي بمكنونات وعيه المتناقضة، اذا أُخذت من الخارج لكنها منسجمة داخليا بديناميكيتها وانفتاحها على الجديد والمتحرّك، وكان من أبرزها الخطاب الماركسي، ومن ثم الوجودي والعبثي والنفسي حين تراه تحسبه مثل راهب هرطوقي، ومن زاوية نظر أخرى يبدو وكأنَّه (تحريف) تبادلت فيه المرجعيات الثقافيَّة الشموليَّة أمكنتها، فاختلط صخب النظريات وعنفها بهدوء العقل وصفائه، لينتج ترجمة مبكرة لمسرحيَّة الوجودي جان بول سارتر، المعنونة (الحلقة المفرغة) عام 1963 بصياغات أدبيَّة تنمُّ عن وعي وفهم عميق للمنطلقات الفلسفيَّة الوجوديَّة وما يعبر عنه (سارتر) نفسه، وترجمته الفذة لكتاب الناقد الاميركي اريك بنتلي نظرية المسرح الحديث 1975، تلك الخيانة المبدعة التي كان ثروت عارفا فيها بخبايا المصطلح المسرحي وتلاوينه لا سيما أن الكتاب اشتمل على فرشة عريضة لرواد التحديث في المسرح العالمي من منطلقات (الخشبة) وعناصرها مثل اودولف ابيا، وبريشت، وكوردن كريك، وارتو، وغيرهم، الملتبسين وغير المعرفين في الوسط المسرحي العربي، في الوقت الذي كان فيه المثقفون العراقيون من شعراء وساردين ومسرحيين من الجيل الستيني جيل الموجة الصاخبة واقعين تحت تأثيرات الأدب والفن الوافدين من المشغل الغربي تحت تسمية مصطلحات مختلفة منها الطليعي او العبثي او تيار اللامعقول متمثلا بمسرحيات بيكيت ويونسكو واداموف وجينيه والوجودية بسرديات ومسرحيات سارتر، وسيمون ديبوفوار، وكامو، واللامنتمي بروايات كولن ولسن، وتيار الوعي بسرديات جميس جويس، ووليم فوكنر، وفرجينيا وولف، كان الراحل ثروت يتناول أعمال هؤلاء في دراسات عميقة ومستفيضة سابقة لزمنها الثقافي، فهو أول باحث عراقي أبحر بعوالم كولن ولسن، وفضاءاته المعقدة والغامضة، وقد كرّس لذلك دراسة طويلة هي ودراسات أخرى جمعها في كتاب سمين بعنوان (الطريق والحدود) مقالات في الأدب والمسرح والفن طبعته وزارة الإعلام العراقيَّة عام 1977، بيَّن فيه الراحل شواغله العميقة بالاتجاهات والتيارات الفكريَّة لحقبة الستينيات وخصوصا مع كولن ولسن وعوالمه الخفيَّة، حيث يفكك ولسن التفكير المنطقي للبشر بقوله: «إن فكرتا الخير والشر هما الفكرتان التي توصل اليهما العقل البشري بالجهد الشاق والصراع الدائب، فإنّهما سرعان ما يتبخران ليجد الانسان ذاته في غرفته محملقا في الجدران يدور حول نفسه بحثا عن نفسه فلا يجدها ويظل يدور ويدور من دون أن يدري ماذا يفعل، في هذه الحلقة المفرغة العمياء يظل صاحبنا تائها حتى عن إدراك نفسه» (الطريق والحدود ص 8ـ 9)، هنا في سؤال الكينونة هذا يجد ثروت ضالته في الصوفيَّة ويقرنها بقصائد الشاعر الانجليزي وليم بليك، وبطريقة تفكيره الشرقية حيث صباحه طيف براق وليله قبو كبير لا يضم غير الموتى، وذهنه سجين في دائرة ضيقة وقلبه غارق في الهوة في كرة حمراء مستديرة ساخنة وملتهبة، وحق لهذا السجين المعذب روحاً وجسداً أن يقول بملء فمه (من الأفضل أن لا يولد الإنسان وأن الموت خير من الحياة) بنبرة تشاؤميَّة استزادها ثروت، وتشرّبها من قراءاته للوجوديين هايدجر وكيركيجارد ونيتشه الذي يصفه برب أرباب الحركة الوجوديَّة لأنّه ينطلق من فكرة (الإنسان السوبرمان) الذي يحرق كل شيء أمامه فهو عدمي بالنتيجة ولا سبيل للخلاص والتحرر إلّا بالحرب وإبادة الآخر، أما في دراسته الموسومة (في المذاهب الأدبية والفنية) والتي اشتمل عليها كتاب (الطريق والحدود) ينفتح فيها (ثروت) على أربع مدارس أدبيَّة وهي الوجوديَّة والسرياليَّة والواقعيَّة الاشتراكيَّة والواقعيَّة النقديَّة، ويعتمد فيها على ستة وأربعين مصدراً وكل هذه المصادر لكتاب أجانب وخاصة جورج لوكاش المعروف بتمثلاته للافكار الماركسيَّة وإرنست فيشر، فضلاً عن مجموعة من النقاد السوفيت ويعرف ثروت السورياليَّة بالتعويل على المعجم الفلسفي السوفيتي اذ يقول إنّها «اتجاه في الفن نشأ في فرنسا منذ بواكير العشرينات وهي تعبير متميز عن ازمة المجتمع الرأسمالي وتكمن جذورها الفلسفيَّة في نظريات (فرويد) الذاتية التي تعد الفن وظيفة ونتاجا للجنس، وتبعا للسورياليَّة فإنّ مضمون الفن ينحصر في النوازع الجنسيَّة وغرائز الخوف من الموت والحياة أيضا» (الطريق والحدود ص63 ـ 64) وينقد ثروت التيارات الوجوديَّة والسورياليَّة والعبثيَّة من منطلقات ماركسيَّة بحتة ويدين تشاؤميَّة هذه التيارات وانطوائيتها على الذات وانقطاع علاقتها بالمجتمع: «تبعا لكل تلك الأسباب، يأخذ العصيان والتمرد والعزلة الذاتية بالتسرّب الى دخيلة الفنان أو الكاتب، وبذلك يصبح الفنان أداة طيعة لكل هذه الهواجس والكوابيس ظانا من نفسه القدرة على التفوق على مجتمعه بتجاوزه معطياته، ومن ثم يجد نفسه منعزلا عن كل تيارات عصره، مفرغاً في ذاته كل همومه ومشكلاته فيتمزق وعيه تمزقا مأساويا سوداويا» (الطريق والحدود ص69)، يرى ثروت أن هذه النزعات والتيارات ليس مهما فيها معاناة المرء الذاتية مهما كانت صادقة ولا يكفي ان يحسب المرء نفسه طليعيا وان يطمح للسير في مقدمة تطور الفن، وليس مهما الابتكار السباق لتجسيدات تقنية مذهلة، بل المهم هو المضمون الانساني، والمضمون الاجتماعي للنزعة الطليعية ورحابة وعمق قفزة المرء في المستقبل، والغريب أن ثروت في بحثه المستقصي في ثنايا الحركات والاتجاهات الطليعية نجده منكفئا على ذاته في أخريات أيامه منغلقا عليها مشتغلاً مع نفسه بالمنطلقات الوجوديَّة والعبثيَّة نفسها التي نقدها وقوّضها في مستهل حياته الأدبيَّة، فيتوقف عن الترجمة والنشر وهو في أوج عطائه الأدبي والفني، وقد يكون هذا الانكفاء والانعزال احتجاجا وتمرّداً على الأوضاع الاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة التي بدأت تسوء أبان منتصف الثمانينيات وصولا الى التسعينيات.