استعادة الأثر في أعمال فائق العبودي

ثقافة 2022/07/23
...

 زهير الجبوري 
 
إنَّ أهم ما يميّز تجربة الفنان التشكيلي العراقي المغترب فائق العبودي إنّها غائرة في الأسلوب التجريدي المشبّع برمزيَّة عالية للموضوعات المتناولة، فعلى الرغم من سنوات اغترابه الطويلة في أوروبا، إلّا أنَّه لم ينفصل عن كينونته الشرقيَّة العراقيَّة المتجذرة التي تظهر بوضوح في أعماله، فمهما تعدّدت رؤاه وثقافته ولغته، إلّا أنَّه يطرح مشروعه الفني والجمالي بذائقة تشكيليَّة لها فلسفتها الخاصة، ولعل هذا الأسلوب هو ما يمكن أن نجده في المقولة النقديَّة: (إنَّ الفن التشكيلي العراقي حاضر في كل بلدان العالم بمنجزه وحضور ومشاركاته الفاعلة)، ولا ضير في ذلك حين فهم العبودي فكرة الحضور هذه بوعي مضاف، فضلا عما تمتع به من رؤية جماليَّة في زوايا 
أخرى.
العبودي في كل تجاربه نجده يجايل تحولات المرحلة التي يعيشها ثم يتمثلها؛ لذا نشاهد في خلال عالم اللوحة إنه هو العالم المعاش بدقائق الاختيارات (الثيميَّة) المعبرة عن واقع وحضارة ورموز، وما إلى ذلك من تفاصيل تتمحور حول قبول الآخر بوصفه أحد عوالم التشكيل، ومن خلال تفحصي الدقيق لأعماله، لمست وبدقة كيفيَّة اشتغاله على ثيمات الوجه والشبابيك والأقبية والأبواب والمربعات التي ترمز إلى بعد عرفاني، فضلاً عن استعماله الحروف التي من خلالها يمسك بإحساسه غير المباشر بعروبته، وكلّها تأتي مشاريع جماليَّة في غاية الانضباط لأنّها تخرج من تحت يد فنان محترف.
ولم تكن استعمالاته اللّونيَّة سوى لعبة مازجت بين وحدة المضمون الفكرة والمتخيل الشكلي، فما كانت طريقة (الكونتراست)، ووجود ألوان حارة ومضيئة وغامقة في داخل اللّوحة الواحدة سوى تناغم شكلي أعطى بعداً جماليَّاً هائماً، ولم يكن المنظور للشكل المتضاد سوى معادلة شكليَّة متوازنة، ولعل أهم ما انتبه إليه الفنان فائق العبودي، إن البيئة وتفاصيل واقعه الأول وما يحمله بلده من أعراف وتقاليد وحضارة أم، هي الفيصل الذي جعل منه يكمل مشواره الجمالي في بيئة أخرى، وهي سمة تحسب له، مثل الكثير من الفنانين الذين غادروا البلد وأقاموا مشاريعهم على الإرث الأول لهم، وهو إرث كبير وحاضر في الأجيال وفي الأزمان  كلها.
استعادة الرمز الشرقي/ الرافديني، والاشتغال على وحدات وحفريَّات الحسّ الصوفي في بعض الأعمال، يولد انعطافة كبيرة تصاحبها  دراية موضوعيَّة تحيل إلى مساحات الفكر التأملي، بمعنى ثمّة تشكلات وتكوينات لها دلالات واسعة وبعيدة انطوى خلالها الفنان في جعل لوحته ذات أثر واضح يتناغم مع الإحساس والشعور بالأزمنة وبالطقوس ـوهذا رأي عادل كامل أيضاًـ  لذا جاءت جميع التجارب معبأة ومعمّقة بالخيوط الممتدة بالأثر المستعاد، والاستعادة هنا ليست بمفهومها الحرفي، إنَّما بالطريقة التي وظفها لنفسه، وبالأسلوب الذي اشتغل عليه، وهذا ما جعل تفرّده واضحاً، وفي حقيقة الأمر هناك العديد من فناني العراق دخلوا هذا الاشتغال، كلٌّ له طريقته الخاصة، لكنَّ العبودي، آثر على نفسه أنْ يصوغ عالمه التشكيلي بطريقة 
فريدة.
والملفت للنظر أيضاً، التنوع الذي شاهدناه في أعماله، فمع رسوماته على قطع القماش، يناظر ذلك اشتعاله على قطع الخشب، وهذه الطريقة تحتاج الى تقنية خاصة، لكن طريقة الأداء واستعمال اللّون، ذاتها التي عرف فيها في رسمه للوحة القماش، أعني ما جاءت به ثيمة الموضوع، وفي كلا الحالتين بانت هوية الفنان وأخذت مكانها المعهود، فالأسلوب هو ذاته الأسلوب، أو كما يقول الفيلسوف بوفون: "الأسلوب هو الرجل"، فكانت هويته واضحة
 وبارزة.
وفي حديث مع العبودي الذي يسكن في سويسرا، أوضح أنَّ البلد الذي يسكنه فيه هدوء وسكينة ممّا فتح مخيلتي على الإمساك بالعديد من الأفكار التي نفذتها واشتغلت عليها، لكني بقيت الفنان العراقي الذي تأسّس على أيدي كبار الفنانين العراقيين.. وهي ميزة تحسب له كونه بقي ابن البيئة الرافدينيَّة، مهما تقادمت سِني الغربة، ومع كل هذه التجارب التي تكللت في معارض شخصيَّة، وأخرى عامة، فهو على استعداد لإقامة معرض شخصي في بلد أوروبي، ويسعى لأن يجدّد ما جاء به من أعمال سابقة، لذا فهو في تواظب مستمر وإبداع 
دائم.