في مديح إيكو.. تأملات في معنى الترجمة (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

جومبا لاهيري
ترجمة: جودت جالي
 
(ملاحظة: يرجى الانتباه الى تطبيق جومبا لاهيري التأويلي للخطاب النسوي على هذه الجزئيَّة من الدراسة، والحقيقة أنَّ تناولها هذا فيه قدرٌ ممتعٌ من الابتكار انطلاقا من عالم الميثيولوجيا - المترجم)  
 
 
في شباط من سنة 2016 رحبت بمجموعة من الطلبة بجامعة برنستون لعقد حلقة دراسيَّة مكرَّسة للترجمة الأدبيَّة. كنت تواقة لأنْ أدرِّس هذا المقرر، لا بل كنت أكثر توقاً للتعلم منه أنا شخصياً أيضاً. السبب هو أنه في تلك الفترة بالضبط كنت مقبلة على مواجهة مشروعي الترجمي الرسمي الأول، وهو رواية (لاتشي) بقلم دومينيكو ستارنوني المطبوعة سنة 2014 والتي قرأتها بالإيطاليَّة وأعجبتني.
 
 
كانت ترجمتهاً جزءاً من مرحلة التحولات (الاستحالات) الجارية في حياتي. انتقلت سنة 2012 الى روما لتحسين لغتي الإيطاليَّة، وفي السنة التالية بدأت أكتب بالإيطاليَّة، وهذه التجربة قادتني الى كتابة (In altre parole) ونشر سنة 2015، كتبته بدافع الجرأة وحب المغامرة، ولكني في قرارة نفسي شعرت بأني أهملت خطوة حاسمة على درب معرفة وتعلم لغة جديدة، وعندما عرض عليَّ ستارنوني الذي صادقته في روما أنْ أترجم (لاتشي) قبلت بحماس، ولكن بإدراك أيضاً، فالتحول من الكتابة بالإنكليزية الى الإيطالية بالنسبة لي شيء والتحول من كاتبة لكلماتها الى كاتبة لكلمات غيرها شيء آخر تماماً. إنَّ اجتياز هذا التحول أكثر جذريَّة من التحول الأول على نحو ما فقد رافقه حسٌّ بالمسؤوليَّة لم يسبق لي أنْ أخذته بعين الاعتبار إذ تطلب ليس مهارات فقط بل وضعاً ذهنياً لم يكن مألوفاً لي إلا قليلاً.
في سياق التحضير للحلقة الدراسيَّة في برنستون سألت نفسي كيف أبدأ؟ كيف أقدم وأفتح الحديث؟ قرأت مقالات عديدة ونظريات ترجمة عديدة في الماضي، وكان بإمكاني أنْ أبدأ بسهولة بالاقتباس من مقالات لفالتر بنيامين أو فلاديمير ناباكوف، ولكني بدلا من ذلك استدرت الى تحولات أوفيد، وهو عمل ما فتئ يضيء لي أسرار الحياة، ولنتذكر دائماً أنَّ رائعة أوفيد نفسها ترجمة، بالمعنى الواسع، من الميثيولوجيا الإغريقية، مستلهمة من رحلات الشاعر في اليونان ودراسته للغة والثقافة الإغريقيتين إبان شبابه. إنَّ التحولات مثل الشعر اللاتيني كله تقريباً عمل ينمو من لقاء، وإعادة ترجمة، أدب موجود مسبقاً في لغة أخرى. فكرت فوراً في أسطورة (إيكو ونرسيس (نرجس) وأخذت توجهني مزودة إياي بمفاتيح استكشف بها ما معنى أن تترجم نصا من لغة الى أخرى.
بدأت في اليوم الأول للصف بالقول إنَّ أي ترجمة يجب أنْ يُنظر إليها على أنها استحالة أولاً وأخيراً، تحول جذري ومؤلم وإعجازي، إذ يتم حجب ملامح معينة واكتساب أخرى. أخبرت الصف بأنَّ كل جزءٍ تقريباً من قصيدة أوفيد القصصية العظيمة يمكن أنْ يُقرأ مجازياً كمثالٍ على الترجمة، علما أنَّ المخلوقات تبدل حالتها الوجوديَّة باستمرار، يعني أنَّ أسطورة إيكو ونرسيس مرددة للأصداء حين تؤخذ من وجهة نظر المترجم، وتتحدث إلي شخصياً، وبفطنة، حول ما يعنيه التحول من كاتب الى مترجم وبالعكس.
فلنبدأ بتنشيط ذاكرتنا عن الاسطورة الموجودة في الكتاب الثالث من التحولات. إنها، وهي قصة حب مشؤومة، واحدة من سلسلة من حكايات أوفيد حيث العاشق والمعشوق يتحولان كلاهما. إنَّ إيكو، وهي حورية جبل معروفة بصوتها الجهوري، جندها الإله زيوس المُغازل لتصرف انتباه جونو بالثرثرة معها. عندما علمت جونو أنَّ إيكو خدعتها بطبيعتها المتكلمة حكمت عليها بأنْ تقول جزءاً مما قاله الناس الآخرون مسبقاً. تغيرت قابليتها على التكلم مختزلة الى إعادة جزئيَّة لكلمات قالها الآخرون مسبقا: مع ذلك، عندما تتحدث، فإنَّ قوة حديثها/ لم تكن تختلف عما هي الآن، يعني/ أنها تستطيع من عدة كلمات إعادة الكلمات الأخيرة فقط 359 – 61.
إنَّ الترجمة شكل أدبي مثير للخلاف دائما، والذين يقاومونه أو ينبذونه يشكون من أنَّ التحول الناتج هو مجرد صدى للأصل؛ أي أنه قد ضاع كثيرٌ جداً منه خلال عمليَّة السفر من لغة لأخرى. تجذب قصة أوفيد الانتباه الى طبيعة هذا الضياع، الإفقار، كما شُخصن بإيكو، الشخصية التي ألهمت الكلمة، مع أنها إغريقية أصلاً، لتفسير ظاهرة صوتيَّة. صوت، بوصفه نتيجة حركة على نحو ما ومواجهة حاجز، يعود، صانعاً طبق الأصل من جزء من الصوت الأصلي. على كل حال علينا الحذر من أنْ نساوي معنى كلمة إيكو بمجرد تكرار. إنَّ الفعل الذي أسبغه أوفيد على إيكو، المدانة ذات مرة، ليس التكرار بل إعادة القول، ما يعني، من بين أشياءٍ أخرى، تجديداً، استرجاعاً، إعادة إنتاج. يمكنها أنْ تعني أيضاً الترجمة من لغة الى أخرى.
عند النظرة الأولى تبدو إيكو، التي تنبري بوصفها راوية قصص موهوبة، قد تحولت بفضل لعنة جونو الى مترجمة. لأنَّ جزءاً من مهمة المترجم، مثل إيكو، هي الإصغاء الى النص بعناية، يقرأه، يمتص معناه، ويعيده. يعيد المترجم إنتاج كلمات مكتوبة مسبقاً بأخذ صورة طبق الأصل عنها. هو مثل إيكو يفترض مسبقاً وجود نصٍ أصلي، ويفترض أيضا بأنَّ كثيراً مما يجعل النص جميلاً وفريداً في الأصل سيكون مستحيلاً المحافظة عليه في سياق لغوي آخر.
في أسطورة أوفيد يكون واضحا أنَّ حالة إيكو هي عقاب، حرمان من صوتها وكلماتها ولكنها تترجمه، مثاليا، تحول هذا العقاب الى تحفيز للتحدي، وغالباً الى تحفيز للابتهاج. المترجم يكرر وبهذا يضاعف نصاًَ. لكن هذا التكرار لا يمكن تناوله بالمعنى الحرفي. إنَّ المترجم، بعيدا عن الفعل الصارم للاستنساخ، يجدد معنى نص بوسائل عمليَّة خيميائيَّة متقنة تتطلب مخيلة وذكاء وحرية. وهكذا فيما يكون فعل الإعادة، أو بعث الصدى يرجع بالتأكيد الى موضوع الترجمة فإنَّه في الوقت نفسه ليس سوى نقطة انطلاق لفن المترجم.
وقعت إيكو ذات يوم في حب نرسيس، ونتيجة لوضعها، انقلب هذا الحب الى مأساة، فهي لافتقارها الى كلمات خاصة بها غير قادرة على مناجاة نرسيس الذي تشتهيه. عندما اقتربت منه أخيرا أنكرها وفي سلسلة أخطاء كوميدية قاسية فإن نرسيس، أثناء مقاومته لمحاولاتها التقرب منه، يقع في حب نفسه، بينما إيكو وهي خجلى يتبدد جسدها ويتلاشى الى درجة لم تعد فيها سوى كومة عظام وصوت. إن لغة أوفيد هنا رائعة ومعذِّبة: " بقي الصوت والعظام فقط/ الصوت يبقى أما العظام، كما يقولون، اتخذت مظهر أحجار" 398–99.        
نقاط هذه الحبكة مشحونة بالمعنى من وجهة نظر المترجم. يوجد تفصيلان أساسيان وكلاهما يحيلان الى إيكو. أولا فعل الاشتهاء، أو الوقوع في الحب، والذي في الظروف المثالية يثير الحافز الى الترجمة. إن الولع كما قلت هو ما حفزني الى ترجمة (لاتشي) وكل ما ترجمته منذئذ. أحد شروط علاقة المترجم بالنص هي الاتباع، أن يكون ثانيا وليس أولا، مثل إيكو التي: "ترى وتحترق لأجله، وتتبع أثره خلسة" 371 . إن إيكو، وهي في أحد أدوارها المفاجئة العكسية في هذه الأسطورة، هي الصياد الرئيس، فيما نرسيس الذي وصف بأنه صياد، هو الذي يهرب طوال الوقت، ومع أن عملية الصيد التي تقوم بها إيكو قد فشلت فإنها تساعدنا على أن نقدر بشكل أفضل الدور التناقضي للمترجم الذي، في آنٍ معاً، يأتي ثانيًا ويمارس أيضًا درجة معينة من السلطة في صراعه مع النص بلغة جديدة.  
التفصيل الثاني هو "تجسد" إيكو النهائي بوصفها لا شيء سوى صوت. يوصف المترجمون غالبا بأنهم وجودٌ صامتٌ غير مرئي مضحٍّ، وينظر الى دورهم على أنه مساند. هنا يقول المفكرون النسويون بأنَّ ممارسة الترجمة مطابقة للنموذج الأصلي الأنثوي التقليدي حيث يكون وضع المرأة وهويتها تابعة لهوية الرجل.
 
مقتطف من:
"In Praise of Echo: Reflections on the Meaning of Translation," in Translating Myself and Others by Jhumpa Lahiri , 2022.