تحريم الغناء بين مكر اللغة والتأويل وسرديات النص المؤدلج (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

د. علاء كريم
تنتقل الآراء وتتحول الأفكار عبر حقب زمنية مختلفة وتجارب انسانية  متعددة، أبدع فيها البشر بأفعال مسموعة ومرئية، لا تُخلق من العدم ولا تفنى، مثلها مثل الأقوال التي تتحكم في البشر، وتتسلط فيها النصوص المكتوبة وحتى تلك الشفاهية في الخطب والأفعال، ويبقى المتلقي مستسلماً لما هو مكتوب، ومقتنعاً بالأقوال المتميزة بين العقل والطبيعة عبر العصور، بكل ما فيها من تحولات وتمرد على قوى العقل والمعرفة.
 
قد ينزاح ذلك الى فن الموسيقى وأهميتها وحتى تعريفها وفقاً للسياق الثقافي والاجتماعي. وما تعرضت اليه  بعض الأنواع والأساليب الموسيقية على مر التاريخ للانتقاد، وعدّها موضوعاً خلافياً في الإسلام، رغم أن هناك من يرى بأن الإسلام أباح الغناء، وبذلك ما هو إلا كلام يحمل من الجمال والقبح في آن واحد.
تناول الباحث عبد الجبار خضير عباس في دراسته “تحريم الغناء.. إباحة النص والهيمنة الفقهية”، مجموعة من الأبواب التي تنقل بوساطتها الى ما هو جائز أو محرم في الغناء، وأخذ مجموعة من الآراء التي اعتمدها المفسرون، وفرضوا تأويلاتهم عبر النص القرآني أو الحديث، كـ “حجج” يستطيعون فيها إيجاد تفسيراتهم التي هي أقرب الى الواقع.
اختزل قراءتي فقط لثلاثة محاور من هذه الدراسة، “مكر اللغة والتأويل المدهش” وايضا “تناص السرديات الكبرى” فضلاً عن “سيادة اللغة الوثائقية بشأن تناول موضوعة الغناء”.
عديدة هي التطورات التي نتجت داخل مساحة “فلسفة اللغة والتأويل”، إذ بات المعنى المفاهيمي الفلسفي، قيمة معيارية لحركة اللغة واتجاهاتها المتعدّدة، عبر موضوع التأويل الفلسفي، المتلائم مع حركة وسيولة المعنى، والرافض للمنهج المؤدلج، والمحمل بإسقاطات عديدة، كـ “محاولة” لخلق علاقة تربط بين الفهم والمعنى. يؤكد الباحث في هذا الجانب على الشعور بالأسى الذي يمتد الى أكثر من (1400) عام، وما نتج حول نقض أطروحات فقهاء الكهنوت بأن الغناء مباح ضمن تأطير المنظومة الدينية، وتوفير قناعات لمن ذاب في أنساق هذه المنظومة، وتأثر بقدسية الخطاب الديني التاريخي الذي يريد الناس خاضعين لسطوته التشريعية عبر احتكار المعنى والتفسير، هذه التفسيرات خضعت لقناعات فقهية بعيدة عما جاء في ألواح سومر ورقم بابل ومكتبة آشور، حتى كونت لها -أي التفسيرات- ذاكرة مختلفة ترتكز الى افعال لها تأثير جيني مازال موجوداً الى يومنا هذا.
لذا أرى أن الباحث قد انزاح في هذه المفاهيم عبر الممارسة المعرفية وبشكل واضح لاكتشافات جديدة في التجربة البشرية، وبنحو ينساق الى المفاهيم والقيم الفنية المتعالية فلسفياً، وبالاتجاهات العلمية الحديثة، وذلك من أجل الحفر في جوانبها المختلفة، سواء كانت موجودة ضمن قراءات سابقة، أو جديدة غير مألوفة ضمن أدبيات الباحثين واشتغالاتهم، لكنهم تناولوها بشكل مغاير، لتكون نافذة لهم في النهاية لتأكيد رؤيتهم الأسلوبية والخوض في طرائقها الكيفية. لتتحقق النتائج العامة فيها، ويزال عنها الغموض الناشئ من طبيعتها، أو من عدم التفكير فيها، بسبب بعض العادات والتقاليد المتوارثة، أو لأنها من المحرمات الممنوع الخوض فيها أو الاقتراب من مساحتها. 
لينتقل بنا الباحث حول ما تملكه اللغة من مكر وتدليس في مفهوم الزندقة كعلامة سيميائية تشير الى كفر بعض الفرق التي ذهبت ضحية القمع الفكري والمعرفي عبر فرض إرادة المؤسسات المختلفة في صناعة الخطاب، لتغير جغرافيا الشكل الثقافي بوساطة تناص السرديات الكبرى، والثيمات المتطابقة مع المتشابهات في الطقوس والتعاليم والقصص التي تظهر فيها معلومات دينية وتاريخية، كـ “حوار” موجه لبعض الصراعات الفكرية والمعرفية.
اعتقد هذا ما أكد عليه الجانب المعرفي الحداثي وما بعده، على ما كان مهمشاً ومنسياً ومرفوضاً، وبالتالي يمكن استرجاع بعض الإشكاليات في المصطلح وحتى المفهوم، والدفع بهما الى المختبرات التجريبية للباحثين ومنهجيتهم، حتى يتمكنوا من الارتقاء الى قضايا كنا نظنها بديهية ومألوفة ومعروفة، فإذا بهم يبرزونها ويقدمونها في صيغ خلافية ونقدية مكنت الوعي البشري من استنتاج قراءات كانت تحمل من المفهومات العميقة والمتجددة، وبالتالي أعطت الثقافة البشرية فرصة التوسع الشاملة في مجالات المعرفة، وانضمت إليها تخصصات أخرى تحمل مجموعة من الرهانات النوعية المختصة بالظاهرة البشرية وملازماتها التاريخية.
كما يؤكد الباحث على “سيادة اللغة الوثائقية بشأن تناول موضوعة الغناء”، والقراءات التي بشأنها نقلت سرديات تحريم الغناء رغم التحويلات التي تخرج عن المسار التقليدي الذي يتكئ على علوم مجموعة من الباحثين وحتى المفسرين، رغم أن هناك آراء ضعيفة السند أو الحكم، وهذا يعتمد على لغة التحليل والتعبير عن منهجية النصوص المعرفية وإباحتها على وفق شرائط العلوم والقواعد المعاصرة.
ما من حديث عن علاقة الألسنة الطبيعية بالمجتمع إلا وله سياق معرفي مخصوص يتنزل بين فروع العلم الكلي الذي يتناول الأجزاء ضمن المجموعة المتناسقة، وفي هذا الموضوع نرى علم الاجتماع معنياً بأحد الطرفين، ولكن علم اللغة هو المعني بالفعل الأساسي للحديث في مجال الاختصاص. 
على ضوء ما تقدمت به، ارى أن الغناء لغة ينشئ عنها المستمع معاني لها أبعاد تلامس القراءة والنقد، وقد لا يمكن أن تكون هذه المعاني نزيهة عن النزعة الفردية، حتى وإن كانت الفكرة الحقيقية هي: أن الفن ليس للفن، وإنما المبدأ الذي يكون سامياً ونبيلاً. كما اعتقد أن الغناء هو العاطفة التي تحدث الروح بـ “شوق” وألم، فضلاً عن أنه بلاغة تؤلف أفعالاً جميلة صادقة، تصور لغة البراءة والطهر في مساحة الفضائل الإنسانية.