ماذا نأمل في الفلسفة؟ (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

حازم رعد 
غالباً ما يرغب النسان بالجابة على كل سؤال يتمثل مامه [فأساساً طرح السؤال يتمثل في رغبة بامتلاك إجابة عنه] فالإنسان بطبيعته ينهد الى استكشاف المجاهيل ويحب الاستطلاع، فلذا حددت أحد أوجه حاجة الإنسان الى الفلسفة بأنها فطريَّة وغريزيَّة، ويقال إنَّ الإنسان في رحلة طلبه للمعنى يزيل المخاوف التي تنشأ عن جهله بحقائق الأشياء [فإنَّ كل شيء مجهول مرهوب] وقد شهد أهل المنطق أنَّ الإنسان يحاول أنْ يخفف من نوبات الخوف التي تسكن نفسه جراء مواجهته للمجهول، فالمعرفة هي الي تذهب الخوف وترسخ الطمأنينة.
ولا ندعي أنَّ كل الإجابات التي يتوصل إليها الإنسان بسعيه النظري تكون كافية وتغنيه عناء البحث مرات أخرى، وهذه صفة مهمة للبحث الفلسفي أو هي صفة للتفلسف فحينما يقف السؤال تعجز الفلسفة عن المضي قدماً في البحث عن الحقيقة فكل فلسفة إنما هي حصيلة السؤال والإشكال المتجددين في إطار التاريخ الذي تنتج فيه، فقدر الفلسفة أنْ تبقى تتساءل وأنْ تتخذ من ذاتها موضوعاً لهذا التساؤل.
إنَّ سؤال الغاية المرجو من وراء البحث الفلسفي رغم أنَّه تقليدي لكنه يدفعنا الى أنْ نفكرَ في جملة من الإجابات ونبحث في عصارة ما قدمه الفلاسفة الأفذاذ ونحن بدورنا قد نتفق معهم وقد يكون العكس بألا تتطابق إجاباتهم مع الراهن الذي نعيش فيه، فالفلسفة تمثل عصارة الظروف والمناخ الذي تنشأ فيه، فهي معبرة عن روح عصرها وفي أفكارها يتم تظهير ثقافة واهتمامات ذلك العصر.
 
ماذا نأمل؟
إننا الآن نعيد صياغة سؤال الأمل الذي اضطلع به كانط من ذي قبل ونجدد طرحه في راهننا، ودلالة ذلك أنَّ بعض التساؤلات والمشكلات الفلسفيَّة دائمة التحقق في الفلسفة بغض النظر عن الزمان والمكان الذي طرحت فيه.
لقد تبني كارل ماركس الإجابة عن هذا السؤال المركزي في الفلسفة وقدم فكرة تغيير العالم وهي عمود فلسفته الجديدة جواباً على ذلك، فبدلاً من الاكتفاء بتفسيره كما هو الرائج في مختلف المذاهب والاتجاهات الفلسفية التي كانت سائدة، إنما كان نتاجاً لفهمه أنَّ تطور حركتي التاريخ والمجتمع يتشكل على أساس صراع طبقي منشأه صراعٌ في عمق الأشياء وكان ماركس يفهم أنَّ الفلاسفة سواه لم يتسن لهم إدراك ذلك، ولذا قصد أنْ تمشي الفلسفة على قدميها عكس ما كانت عليه وبحسب توصيفه، كانت تمشي على رأسها مع هيغل فانتقى فكرة الجدل -الديالكتيك وعدَّ أنَّ التاريخ والمجتمع والاقتصاد كلها تتحرك في محور هذا القانون العام وفي حركة مستمرة بلا توقف سيحصل في لحظة ما المجتمع السعيد الذي بشر به البشريَّة.
وعلى أساس الافتراض الماركسي نتساءل هل نحن فعلاً مسؤولون عن تحمل هذه المسؤوليَّة الجسيمة في أن تغيير العالم فما نحن إلا كائنات محدودة بمتعينات الزمان والمكان، والظروف حاكميتها علينا بقوة قبضتها فهي الأخرى تضغط باستمرار لتضمن ضبطنا مع الوعي العام والسائد ويصنع بنا التاريخ غاياته فهو يمكر بنا ليحقق مقاصده فنحن إذا محدودون بالتاريخ والظروف، لا سيما إذا عرفنا أنّ فكرة تغيير العالم من سلالة عائلات الأفكار المثاليَّة التي محلها الذهن. ونقول بصدق إنَّ الإحاطة بها تفوق قدراتنا كبشرٍ، فالبشر محدودون بحدود ما يفهمونه والعالم أوسع من حضور البشر الضيق والهزيل ولعلنا نوفق في إدراك ما يمكن في محيطنا وما ينبسه لنا الواقع والتجربة الشخصيَّة من وعي فقط، ولكن فكرة التغيير العالمي غير متاحة فعلاً على الأقل من ناحيتنا كبشر نسترق النظر في هذه الإشكاليَّة بأدوات العقل.
من هنا كان لا بُدَّ من تحديد مسؤوليتنا الفعليَّة والمسؤوليَّة استجابة للوعي ولإدراك الإنسان مكانته في الوجود، ولعلَّ جوهر تلك الاستجابة هي أنْ نحقق قراءة جديدة للعالم وأنْ نراجع رؤيتنا عن الحياة والإنسان بدقة وحرفيَّة عالية [بصفتنا أفراداً وتجمعات تلائم وجودنا وقدرتنا والوقت المتوفر لنا] نحن بحاجة الى أنْ نعيدَ تشكيل فهمنا للعالم كما يرى سلافوي جيجك.
أنْ نعيد تطويع فهمنا ووعينا مع الأفكار والتصورات التي تحرك عالمنا الفردي والأسري والجماعاتي ومن هو أوسع نسبياً والمقيد بحدود قدرتنا الفعليَّة، يجب علينا ألا ننفعل أو أنْ نتحمس مع الأفكار المثاليَّة فيقودنا ذلك الى سوء في الفهم والتصرف، فالأمثل أنْ نتمثل ما كان يراه كانط من أنَّه ليست غاية الفلسفة توسيع معرفتنا بالعالم، بل في تعميق معرفتنا بالإنسان لأنه بالتالي يمثل روح هذا العالم الذي تسخرت لخدمته الأشياء والطبيعة للوصول الى غاية النهاية وهي تحقيق السعادة لنوعه المفضل، وهنا يبرز دور الفلسفة وهو تعزيز وعي الإنسان بذاته ورفع مستوى تفكيره بكينونته من جهة والحياة من جهة أخرى، هذا الفهم الجديد والعقلانية في استيعاب ما يؤمل له أنْ يكون مقدمة نتجاوز من خلالها نوبات اليأس والرغبة الغامضة التي تعترينا بحسب ابيقور.
وأنْ نحصل لأنفسنا على شعور قليل بالمتعة واللذة حتى لو كانت ممزوجة بالشقاء، إلا أنَّها واقعيَّة تحكي حقيقة وجودنا وقصور الزمن الذي نقضيه في الحياة وهكذا لون من الوعي بواكير التفلسف و[يبدو لنا أنَّه ليس للوعي الفلسفي من موضوع سوى الخبرة العادية، فنحن نتفلسف حين نفكر في العالم والآخرين والتاريخ البشري والحقيقة والحضارة] كما يقول زكريا إبراهيم.
وهذه القراءة مع واقعيتها ستعيد تشكيل نماذج تعاملاتنا اليوميَّة وعلاقتنا بالآخرين ستوفر لنا شقاءً ولكنه واعٍ ونسبي، وحريٌّ بنا ألا ندخر جهداً في هذا الطريق.