شخصيات تحولت لـ(تريند) وكتّاب صاروا فاشينست الزمن الجديد (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

البصرة: صفاء ذياب
مثلما هناك مشاهير في عالم الفن والموضة والرياضة، صنع الأدب مشاهيره على مدى قرون طويلة، بدءاً من شعراء المعلّقات (بعيداً عن صحة تلك الرواية من عدمها)، مروراً بشعراء العصر الإسلامي والأموي والعباسي وصولاً إلى العصر الحديث، فبقي شعراء أمثال المتني وأبي تمام وبشار بن برد، وكتّاب مثل الجاحظ والجرجاني والقزويني، وغيرهم الكثير، نماذج للأدباء المشهورين على مرِّ التاريخ، على الرغم من عدم وجود تقنيات ووسائل تجعل من هؤلاء مشهورين، غير أنَّ هناك نقّاداً صنعوا أمجاد هؤلاء، فلم ينتهِ ابن جنّي- على سبيل المثال- من الكتابة عن المتنبي إلَّا مع وفاته، وهكذا بالنسبة لآخرين كانوا ماكنة إعلامية لشعراء وكتّاب، جعلوا أسماءهم راسخة.
غير أنَّ ما يحدث الآن، يختلف تماماً، فأدباء الزمن الماضي اشتهروا بسبب الدراسات التي كتبت عنهم، وتداول نصوصهم والتعبير عن مواطن الإبداع فيها، أما الآن فتحوّل الأدب إلى موضة لا أكثر، فمهوم (التريند) انتقل من الفنانين وفضائحهم إلى  كاتبات وكتّاب لم تكن نصوصهم مهمّة بقدر حياتهم أو الجمهور الذي صنعهم... فإذا كان هناك (فاشينست) في السوشيال ميديا كفنانين، أصبح لدينا فاشينست أدباء، أمثال بثينة العيسى وعلي نجم من الكويت، وأحمد خالد توفيق وأحمد مراد من مصر، وفي العراق لدينا أسماء كثيرة مثل شهد الراوي وخزعل الماجدي وغيرهما الكثير.. فهل انتقلت موضة الفاشينست (الجماهيرية) إلى الأدب؟
 
اختفاء المزّيف
يرى الروائي والمترجم عبدالهادي سعدون أنَّ لكلِّ عصر ناسه وأدواته، ولا يعتقد أنَّها شيء جديد، فقد مرّت القرون الماضية بما يشابهها ويوازيها بوسائل تلك العصور، وحملت ما حملت وغيّرت ما غيّرت. "لست بالضد من أيّة وسيلة للترويج الجماهيري لا سيّما وأنَّ عصرنا مليء ويتجدّد في كلَّ ساعة بها ومنها، ولا أعتقد أنَّ الأدب الحقيقي سينحسر أثره بسبب هذه الظواهر التريندية في الأدب أو الفنون عموماً". كل ظاهرة تجيء بموجتها وناسها، وما يبقى هو الأدب الحقيقي سواء استخدم هذه الوسائل والمواقع أو لا، أمَّا ما يظهر سطحياً فسيختفي حتى لو بيع منه الآلاف، وأدلّة الأدب والفن الحقيقي منه والسطحي متاحة وأمثلتها وفيرة. آداب العالم أجمعه مرّت وستمر بظواهر مشابهة وأزمات وصراعات وهذا سر تجديد الفنون والآداب الحقيقية، بل الحياة نفسها. لا ضير من تجديد الوسائل مع كل زمن، أما الظواهر السطحية، فتراجعها واختفاؤها مناط بالوقت لا غير. الحقيقي دائم والسطحي المزيف يتلاشى بفتحة وإغماضه عين.
 
الفرز
ويشير الشاعر فضل خلف جبر إلى أنه في عالم التكنولوجيا، يشيع تعبير "Native" و"Immigrant"، للإشارة إلى مفاد جديد مغاير لما هو متعارف عليه لمفردتي "أصلي"، و "مهاجر". فحين يكون الحديث حول التكنولوجيا الحديثة ونسمع مفردة "Native"، يجب أن نفهم فوراً أنَّ المقصود هو "الأجيال التي ولدت، على سبيل المثال، بعد ظهور منتجات آبل. أما الأجيال التي ولدت قبل ذلك فهي "مهاجرة" من خارج حداثة التكنولوجيا ومعطياتها المتجددة باستمرار.
مضيفاً: تسويق الكتاب والترويج له من قبل الكاتب نفسه ليست ممارسة جديدة، لكنَّها أخذت وتيرة تدعو للقلق بعد ثورة تكنولوجيا الاتصالات، ومن ثمراتها منصّات التواصل الاجتماعي الآخذة في الازدياد والتعقيد. ولأنَّ الشباب هم "أصحاب الأرض"، لذلك فهم يستغلّون منصّات التواصل لمصلحتهم، ولو على حساب القيم والمعايير الإبداعية. ووجه الخطورة في "تسليع" الأدب، هو أنَّ "البضاعة الرديئة" تحلّ محلَّ "البضاعة الجيدة"، بلغة السوق... وفي غياب النقد المواكب والصارم، تصبح عملية الفرز بين غثِّ الأدب وسمينه مهمة صعبة، بل مستحيلة.
 
أدب مسؤول
ويبين القاص ضاري الغضبان أن هذه الظاهرة تحصيل حاصل لانحدار الذوق العام عند الشباب من جهة، ولسهولة التواصل بين الناس؛ نتيجة فضاءات السوشيال ميديا، إذ أصبحت الإثارة مسوّغاً للمتابعة، لذا يتلقف جمهور بسيط فكرياً تلك الكتابات، دون تمحيص. أما الأدب الرصين، الذي يهتم بالفكرة والثيمة والمعالجة واللغة والقيم... فهذا له جمهور رصين مثله، وإن كان محدوداً، ينشط في هذه الموجة الجديدة مدونون- لا يصح أن نطلق عليهم لقب الكتّاب-؛ لهبوط أفكارهم واهتمامهم بموضوعات سطحية تناغم مع متلقين معتادين على عدم التعمق في كل شيء.
هذه الظاهرة تتكامل مع أصحاب قصّات الشَعر الغريبة، والسراويل المُمزقة، ومتكلمي اللغة الهجينة التائهة بين اللغات الحيّة. الراكضون بدروب الإثارة تحت يافطة التغيير والحداثة الموهومة، وركل كل ما يمت للماضي بصلة، فيجدون الأدب المسؤول من الماضي!
 
الادعاء
وبرأي الشاعر والتشكيلي عمار بن حاتم فإنَّ الحداثة والتطور التكنولوجي والتبسيط الذي أصبح يختزل الكثير من القواعد والاساسيات أسهموا بتغيير بعض المفاهيم التي  أثّرت سلباً في الثقافة والأدب، فقد صرنا نشاهد أراءً ومنشورات لمدونين أو لأشخاص على شبكات التواصل الاجتماعي من صنّاع المحتوى الذي قد لا يكون مهمّاً أو هزيل، لكن بفضل المتابعين وصفحات الترويج مدفوعة الثمن نجدها تتحول بمرور الوقت إلى مطبوعات تلقى رواجاً من قبل المتابعين الافتراضيين الذين يحتفلون بذات المنجز (افتراضياً وواقعياً) نفسهم وسط كرنفالات وهمية ومهرجانات صُنعت لأشخاص وجمهور كهؤلاء.. وبذلك تجد أنَّ مبيعات هذا المطبوع في تصاعد مستمر ويتحوّل إلى(تريند) لأنَّ جمهوره يقتني المطبوع فقط لغرض التصوير والادعاء!
ويضيف: بريق الشهرة والجمهور الوهمي ساهم في خلق سباق محموم بين أولئك الحالمين بالنجومية السريعة والشهرة وتقليد بعض الذين خدمهم الحظ والذين تم تسويقهم ككتّاب ونجوم ساهم في تنامي هذه الظاهرة، حتى شهدنا ظهور أجناس أدبية جديدة مثل الروايات الإلكترونية التي تنتشر عبر المدونات أو مواقع أخرى بعضها مكتوب بلغة محكية ولا يشترط أن تكون مكتوبة باللغة العربية الفصحى، كذلك أسهم غياب الرقابة على المطبوعات وعدم وجود لجان مختصة لفحصها على تزايد وتنامي هذه الظواهر، فالأمر لا يحتاج سوى إلى عدد من المتابعين والجمهور الافتراضي لتسويق هذه الأعمال التي لا يمتلك أغلبها مقومات العمل الأدبي الحقيقي.
 
غياب الإحساس
وبحسب الشاعر حسين الهاشمي، يبدو أنَّ الفضاء الثقافي والمعرفي منساق إلى حمّى الاستعراض، مثلما هو منساق إلى ما يشبه (الموضة) والبحث عن الشهرة والحضور، لاسيّما بين الشباب غير الموهوبين اليوم، أكثر من الشغف في الاطلاع والبحث والتنقيب واستخلاص القيم الجوهرية والحقيقية التي توفّرها الكتب والثقافة، عموماً، لأسباب عدّة، ربَّما من بينها سهولة الوصول والانتشار والقفز على المراحل، كما يرون، بفضل هذا الاحتشاد الكوني الفضائي، المثير للانتباه والأضواء، والتقارب الفوضوي الذي أنتجته العولمة، بوجود وسائل تقنية شبه خرافية للتواصل والذهاب بعيداً نحو التفاهة، وهو الرائج، بدلاً من الذهاب إلى الاستثناء والتفرّد أو الإبداع. إنَّه الفضاء الذي لم يعد فيه الكتاب ذلك الفأس الذي يحطّم الجليد داخلنا- بتعبير كافكا-، بل العكس تماماً، لقد أصبحت قلاع التأليف والانتشار هشّة وواطئة بينما المتسلقون والمتطفلون كثُر، وهناك أيضاً، خلف ما يجري، تلك الجهات والمؤسسات التي ترفع يافطات (ثقافية)، وهي تدعم وتروّج للسطحية والتفاهة، لغايات صغيرة وخاصة ربّما، أو غايات أكبر قد تكون من بينها تخريب الذائقة والبناء والأخلاق، أو الأسس الثقافية المنتجة لحياة أخرى بعيدة عن الابتذال والمناسبات والتهافت على الحضور السطحي، فاقد القيمة مستقبلاً. لابدَّ من الإشارة، أيضاً، إلى أنَّه لا يمكن عزل ما يحصل عن غياب الفاعلية النقدية أو ندرتها، والأفدح من كلَّ هذا، غياب الإحساس بخطورة الكلمة وبما يجري من انحدار.
ويعتقد القاص أحمد ساجت شريف أنَّ الأمر يندرج في سياق تصدير كل ما هو سطحي، ثمّة محرّكات تدفع إلى تسطيح الوعي ولا شكَّ أنَّ العمل على تفخيم ما لا يستحق وتحويله إلى- منجز- عبر تلك الوسائل هو أكثر وأسرع الطرق المتاحة، وبالتالي فأنَّه يؤسّس لنظام يستهدف القيم والمثل والمعارف وكذلك الأدب.. قراءة دقيقة للمحتوى الذي يتصدّر تلك المواقع يضعنا أمام عشرات الاستفهامات وضرورة إعادة النظر في تعريف المثقف لاسيّما وأنَّ المشهد يكاد يكون لما وصفت كتاباتهم بالسطحية وهي وإن كانت استهلاكية لحظوية غير أنَّ ما أفرزته وستفرزه مستقبلاً سيشكّل خطراً لا يقتصر على الأدب وحده... "نعم أعتقد أنَّنا إزاء تلك العدوى ويبدو أنَّ تكريسها ماضٍ بوجود كثير من أسماء ومؤسّسات ودور نشر تعمل على تعضيد هذه الكتابات ودعم منتجيها وتسويق كل ذلك من دون علامة حقيقة أو مسوّغات تنسجم مع الأدب بوصفه أهم أدوات المعرفة البشريَّة".