فتاة المنصورة.. سرديَّات الحب من طرفٍ واحد (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

وارد بدر السالم
ينشغل الرأي العام المصري والعربي منذ فترة قريبة بقضيَّة الجريمة البشعة التي طالت طالبة جامعة المنصورة «نيّرة أشرف» على يد زميلها «محمد عادل» الطالب في الجامعة ذاتها. وفي واقع الجريمة التي توصف بأنها مكتملة الأركان كحدثٍ وحشي وقع في وضح النهار، أمام الأنظار وعبر كاميرات المراقبة المنتشرة في المكان.
وكان من الطبيعي أن يتوقع الآخرون بأنَّ أقسى العقوبات ستطال زميلها المتهم، فالجريمة كانت (مع سبق الإصرار والترصد والنيّة المبيَّتة لها) وما عدا ذلك فهو إجراءات هامشيَّة لا تقع في متن القضيَّة الأساسية، بالرغم من محاولات غريبة لإنقاذ رقبة المتهم من حبل الإعدام. وشيوع الكثير من الأفكار التي أعقبت قرار المحكمة، منها دفع الدية المليونية لأهل القتيلة. أو ترافع محام شهير لفك الحبل الخانق عن رقبة المتهم. فضلاً عن تعاطف جمهور مجهول النسب في هذه الجريمة التي قسّمت الجمهور - إعلامياً- الى قسمين. بين مؤيد لحكم الإعدام ومعارض له. باعتبار أنَّ الجريمة لها مسببات وأسبابٌ أصيلة، ينبغي على المحكمة أنْ تستمعَ لها، قبل أنْ تقررَ العقاب.
كان مشهد الذبح العلني قد تخطّى كثيراً لقطات الرعب التي نشاهدها في أفلام الأكشن وحوادث المصادفات التي تحدث هنا وهناك من العالم. وبينما كانت الضحيَّة تتهيأ لأداء الامتحان، كان القاتل يترصد خطواتها، وأنفاسه تتلاحق لتنفيذ ما عزم عليه من أمرٍ انتقامي جلل غير محسوب؛ انتقاماً من فتاة صغيرة لم تبادله الحب، ولم ترضخ الى تهديداته المتكررة، واكتفت بأنْ أغلقت عليه كل السبل الإلكترونيَّة، لمنع التواصل المُلح الذي وصل الى حد الهوس المَرضي الخطير. حتى أجهز عليها في غفلةٍ وطعنها في صدرها ورقبتها عدداً غير قليل من الطعنات. وكان يحاول فصل رأسها عن جسدها، ليشفي غليله، ويقضي على روحها، في واحدة من أبشع الجرائم التي هيجت الرأي العام المصري والعربي حتى اليوم.
وجدنا القاتل (محمد عادل) المتفوق دراسياً، وقد تحول في لحظة مركّبة غير مباركة، الى وحشٍ مفترسٍ بسكينته المطبخيَّة وهو ينحني ليذبح زميلته الصغيرة التي لم تبادله الحب كما كان يريد. فاختار- بسهولة وقصديَّة- أبشع الطرق في القتل، وأبشع النهايات لها وله أيضاً. مفضلاً مسلك الموت المزدوج في كثافته الاجتماعيَّة التي لا تسمح له أنْ يمارسَ دوراً خارج ثوابت الجماعة وأخلاقياتها. حتى لو كان بوصفه عاشقاً ومُحباً مجنوناً. لكنَّ الحدث أخذ بُعده الواقعي المضطرب بصورة مؤلمة على أية حال. لا سيما عندما أجهز على زميلته نيّرة بالطريقة المفترسة التي شاهدناها. فقتل فيها أكثر من طرف: أسرتها وأسرته في الدرجة الأساسيَّة. فضلاً عن فقدانه حياته بمجمل ما فيها من تفوق وطموح، وقبل هذا أنهى حياة زميلته البريئة، كاشفاً عما هو فيه من لوثة نفسيَّة وذهان وانشطار في شخصيته المترجرجة.
 
مصير الإنسانية وذبحها
كان تعبير المستشار رئيس محكمة جنايات المنصورة بهاء الدين المري وهو يخاطب المتهم في الجلسة الأولى من المحاكمة (انك ذبحتَ الإنسانيَّة) دقيقاً برمزيته العالية وتوصيفه المناسب في تلك اللحظة الاعترافيَّة للمتهم وهو يستعرض القتل الذي أباحه لنفسه.
فالإنسانيَّة التي كانت تمثّلها فتاة أحيطت برعاية قضائيَّة على الفور، بسبب الرأي العام الهائج، وهو يتلقى طعنات المتهم في جسد الفتاة نيّرة. ففي هذه الفعلة الشاذة، أسّس القاتل الى ما يمكن تسميته بـ"متن الخوف" وأدخله الى قلوب الطالبات والطلاب والى ذويهم، فهذا الفعل الجُّرمي الاستثنائي لا يمتُّ للحب والعواطف بصلة. ولا لقيم مجتمع قائم على الدين وشرعه الإنساني الواسع. ولا الآداب الفطريَّة، والالتزام الاجتماعي القار. إذ خرج الشاب من الحياة الفسيحة الى الموت الضيّق بإرادته ووعيه الكامل، تحت حماقة شخصيَّة خلخل فيها البنية الاجتماعيَّة المحليَّة وتجاوز على حقوق الناس كلهم وأضاف لهم الكثير من الألم والإجهاد.
ولو اقتربنا كثيراً من المتهم عادل في سلوكه العاطفي، العُصابي، المتدرج، سنجده مثل هؤلاء الأشخاص غير الطبيعيين الذين يُطلق عليهم مصطلح (مرضى تفكك الهويَّة الشخصيَّة). ففي الوقت الذي يقومون فيه بإخفاء الصور الداخليَّة المفككة والمضطربة والعاجزة الخاصَّة في ذواتهم الحقيقيَّة، يُظهرون بدلاً منها مظهراً خارجياً عامَّاً لا يمتّ الى حقيقتهم بصلة. وهذا ما يعني اضطراباً في الشخصيَّة التي تنطوي على سلوك مزدوج وخيال غير حقيقي. فيميل الـ هؤلاء في حياتهم الى تخيل الوهم والسراب على أنه حقيقة ما دام الوهم مستشرياً فيهم، والخيال الفائق قد أخذ مداه الفعلي في تشكيل صورة هؤلاء المرضى من فاقدي الهويَّة الشخصيَّة في ذاتٍ مبعثرة، غير سويَّة.
هذا المستوى من القناعة يسيطر على الفاعل بشكلٍ مُلح، ليبقيه متماسكاً وقوياً بنظر الآخرين، وهو شكلٌ تمثيلي خارقٌ للواقع. أي إضافة شخصيَّة مواربة للشخصيَّة الأولى تتمتع بمواصفات سلوكيَّة قد تكون فذة. والحقيقة هي ليست كذلك. وإذا بحثنا في تسلسل العلاقة بين محمد ونيّرة كعلاقة جامعيَّة، سنقف على بعض الأخطاء من الطرفين، التي شابتْها. إذ تحولت الى ذاكرة شخصيَّة عند المتهم. في حين كانت لدى الطرف الآخر- نيّرة- ذاكرة مرحليَّة اقتضتها ظروف البلاد في سنتي كورونا التي تعطلت فيها الحياة الجامعيَّة والعامَّة. وكان المتهم يرسل لها بحوثاً وتقارير دراسيَّة. يسهّل عليها واجباتٍ كثيرة وأوقاتاً للمطالعة، من باب أنه يحبها ويحرص على نجاحها وتفوقها. وهذه حقيقة يتوجب الإشارة إليها. لا الوقوف الطويل عندها. وهنا ينبغي التنويه الى ذاكرتي الطرفين: شخصيَّة جداً تتمثل في ذاكرة المتهم التي بدأت تشعر بأنَّ إعداد البحوث لنيّرة هو جزءٌ من الحب. ومرحليَّة تتمثل في ذاكرة الضحيَّة نيّرة التي يخامرها الشعور الممتن لزميلها الدراسي. ونعتقد أنه من هاتين الذاكرتين غير المتشابهتين انبثقت شرارة صغيرة من التقاطعات بينهما اسمها: الوهم، فبينما اندفع المتهم الى تطوير العلاقة الى كيان عشقي راسخ فيه، بقيت الضحيَّة تراوح في مكانها، باعتبار أنَّ ما حدث من مساعدة شخصيَّة لها، يقع في باب الزمالة. باب أنْ يساعد الرجل المرأة في ظروفٍ معينة.. ولا أكثر من هذا.
 
تفكيك العاشق المريض
في العودة الى تفكيك شخصيَّة الطالب المتداخل عاطفياً في سلوكه الوهمي، يتوجب الانتباه الى عمره العشريني المراهق بدايةً. وهو عمرٌ طفوليٌّ في الأحوال كلها. قد تنعدم فيه الجدية والوعي لعلاقة عاطفيَّة من النوع الذي كان يأمله، ووفقاً للمختصين النفسيين فإنّ فترة العشرينيات الشبابيَّة تسمى (العقد المحدد) كفترة تأخذ فيها عقلية الشاب/ الشابة في النضوج، وتُوجِّه إحداثياتها المهنيَّة والنفسيَّة الى المستقبل. ومثل هذا العقد الحرج يتماهى فيه الانفعال نفسياً وبيولوجياً. وهو عمر التغييرات الشاملة التي يتعرض لها الشباب في بدايات حياتهم خارج إطار المجتمع حين الدخول الى الجامعة أو الوظيفة المبكرة. 
طبياً فإنَّ الدماغ يواصل نشاطه حتى هذه السن من حيث الكفاءة والسرعة في التعلم واكتساب العلم والثقافة والمعرفة واكتشاف الحياة من زوايا متعددة (فما تزرعه في العشرين تجنيه في الأربعين) من حيث المهارات العلميَّة والمعرفيَّة والجماليَّة، فضلاً عن اجتماعيات العلاقات الطيبة فيها، تلك التي تتطلب الجرأة في تحديد النوع العلائقي الاجتماعي والإنساني. جرأة الاختيار الناجح. وجرأة المواجهات الفنيَّة القائمة على التعقل والتبصّر.
علينا أنْ نلحظ الفارق بين نيّرة وزميلها من ناحية الإعداد الجمالي النفسي العملي. وهو فارقٌ مهمٌ في تحديد المستويات الجماليَّة بأنواعها الثقافيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة. فالشابة نيّرة تدرس في الجامعة وتعمل في الموديل. بمعنى أنها واعية لظرفها الاقتصادي والاجتماعي. واعية لظروف أسرتها المنفتحة على الحياة ومتطلباتها، والتي سمحت لها بالوظيفة الأوليَّة؛ لهذا فقد أصبحت، بمرور الوقت والتجربة القصيرة، ذات مراسٍ غير سهلٍ أكيد. بل حتى النضج البيولوجي التي كانت عليه، لم يستفزها وهي في هذه المرحالة الشابّة، ما جعلها تنصرف الى شؤونٍ مهنيَّة أخرى (العمل في الموديل) وقيل إنَّها كانت تطمح أنْ تعملَ مضيفة في الطيران. وهذا يدلُّ على طموح كامن فيها، بعدما وعت إمكانياتها المتماسكة، مردفاً بجمالها الطفولي الذي لا يُخفى. وهذا لم يكن يعني الزميل الطالب كثيراً، سوى أنَّ جمالها أبهره، وظن من أنها تقترب منه بخطوات حتى لو كانت بطيئة.
في النبش النفسي المتعمد، سنجد في داخل هذا الشاب رواسبَ من حزمة عصبيَّة متوترة لا تظهر كثيراً، إلا في توقيتات الشد العصبي والخوف الاجتماعي والضياع الفردي. بوجود قرينٍ شائك المحتوى عمل على إذكاء سلوكيات صادمة وسريعة فيه. ولا نعرف إنْ كانت الفتاة قد انتبهت إليها أم لا. لكنْ من الطبيعي أنْ تلفتها موهبته الدراسيَّة، لكنها لم تعلّلها. بل لم يكن في مقدورها أو اهتمامها أنْ تجد أسباب التفوق الدراسي عنده. فالذكاء إنْ لم يكن موهبة، فهو مطلبٌ تحفيزيٌّ مشروعٌ لكل فردٍ يجد نفسه في امتحانات الدراسة قبل امتحانات الحياة.
نجد أيضاً معطيات مختلفة في هذه القصة. أبرزها افتقاده الى العالم الخارجي بالرغم من أنَّه كان فيه. ولم تكن زميلته قادرة على انتشاله من عزلته النفسيَّة؛ فهي شابة وبذات العمر. وربما يكون إدراكها محدوداً في كيفيَّة استيعاب الوهم الذي يمثله زميلها، أو الانتباه الى ما يشبه القرين العكسي الآخذ بمزاحمة شخصيته الاعتياديَّة، وبالتالي توصلت الى حلولٍ شخصيَّة في هذه العلاقة من طرفٍ واحد، وتفتح أمامه جملة معطيات حقيقيَّة، بألا يندفع في الوهم أكثر من اللازم. وقد أخذ يشكل أمام مسارها الحياتي عقدة مستقبليَّة. وفي الأحوال كلها لم تكن راغبة بأنْ يرتبطَ اسمُها باسمه. فقد وعت ظرفها الذاتي، وهي تتقدم في المراحل الدراسيَّة (المرحلة الثالثة) وتطوي السنوات بيسر (حتى مع مساعدة الشاب لها) أملاً لتحقيق علاقتها المهنيَّة والوظيفيَّة بالموضة والموديل. وقيل رغبتها أنْ تكون مضيّفة جويَّة. وكل الاحتمالات هي جماليَّة في أساسها، وفنيَّة مهنيَّة لا تحتاج الى تعليقٍ آخر. بعكس الوجود المطبخي الخانق الذي كان زميلها فيه.
 
الطرف الواحد في الحب
الحب من طرفٍ واحد. ليس جديداً في العلاقات الإنسانيَّة. ويعدُّ هذا نوعاً شائعاً من  العلاقات الفرديَّة. وليس في القضيَّة من عارٍ أو خجل. لا سيما إذا أقررنا بأنَّ النوازع الإنسانيَّة غير متشابهة، والرغبات البشريَّة قد لا تتوافق لظروفٍ ما. مع أنها صدمة عاطفيَّة يمرُّ بها الشباب عادةً من كلا الجنسين. لكنَّ (العناد) الشخصي وتضخم (الأنا) الذكوريَّة المجتمعيَّة، تغلبت على حكمة العقل فيه.بغياب الضمير الإنساني والموقف الرجولي المطلوب. وحتى لو أنَّ نيّرة أخذت تنطوي على غرور شخصي؛ فهذا لا يعني استعلاءها الشخصي والاجتماعي عليه. بل هي حالة معروفة بين البنات اللواتي يُعْشَقْنَ من دون أنْ تكون لهنّ ردة فعل موازية للطلب العاطفي. وكان يمكن له أنْ (يمرّر) الواقعة العاطفيَّة وتحملها سيكولوجياً من دون الإخلال بشخصيته العاشقة. غير أنَّ تعقيد المشكلة، جاءت من تعقيده هو شخصياً. لهذا نجد أنَّ الفتاة حاولت بالطرق المتاحة لها أنْ يخرج عاشقها كله من حياتها  البسيطة. فقد انتهت مرحلة (المساعدة) التي يسميها الشاب مرحلة (الاستغلال) له. وقد زيّنت له شخصيته القلقة بأنَّ كرامته أضحت مهدورة. وأنه (مضحوك) عليه. وظل الشعور بالظلم يراوده كل لحظة، وخياله العاشق المَرَضي يرسم له صوراً قد لا يكون لها أساسٌ من الواقع. فكان لا بُدَّ من اللجوء الى الردع تحت هذا الضغط النفسي الذي أثقل عليه أيامه، وهو ردعٌ أشار به إليه قرينه. لكنه للأسف كان ردعاً وحشياً وقاسياً، ليست له علاقة بالإنسانيَّة والمُثُل الأخلاقيَّة والعرفيَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة.
 
الذبح الداعشي
بقيت الإشارة المهمَّة في الجريمة وطريقة تنفيذها بسلاح أبيض (السكينة) التي رافقت القاتل من مطبخ العمل رمزياً، حتى يوم التنفيذ المباشر في نهار جامعة المنصورة. وهي إشارة لا نريدها عابرة. فالذبح  البشري بتلك الطريقة الوحشيَّة، يحيلنا الى أفعال عناصر داعش في الذبح الإسلامي سيئ الصيت. والذي مورس بشكلٍ سافرٍ وقذرٍ في العراق وليبيا وسوريا وفي أماكن أخرى من العالم؛ حيثما تواجدت داعش وانتشرت عناصرها المجرمة.
شاهدنا وقرأنا الكثير من جرائم القتل في العالم. ونعتقد أنَّ المجرمين في العادة يقتلون ضحاياهم بطعنة أو طعنتين أو ثلاث أو حتى أكثر من ذلك. لكننا لم نقرأ أو نشاهد أو نسمع أنَّ المجرمين بشتى توصيفاتهم الجرميَّة وفي كل مكانٍ على الكرة الأرضية، يقطعون رقاب ضحاياهم. سوى عناصر داعش الذين يتميزون بهذا الصفة «الإسلاميَّة» غير الإنسانية. وبالتالي إنَّ إصرار المتهم محمد عادل على قطع رأس ضحيته (حبيبته الافتراضية) هو موضع شك كبير في طريقة تنفيذه الجريمة الغادرة بحق نيّرة. ولولا تدخل رجال أمن الجامعة في اللحظة الأخيرة، لتمكن من فصل رأسها عن جسدها.
هذه قد تكون فرضية تأويليَّة، لكنها بالنتيجة تحيل الى تلك المؤسسة الطائفيَّة الغادرة. ونحن قطعاً لا نعرف المتهم ولا ميوله الفكريَّة والطائفيَّة، ولا البيئة الحاضنة له؛ غير أنَّ طريقة القتل أحالت فوراً الى تلك الطريقة الداعشية البشعة (فصل الرأس عن الجسد)..
تأملوا المشهد من جديد..!