براءة وجنون (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

أحمد عبد الحسين

تعمل الثقافة في تقاطع طريقين اثنين: البراءة والجنون.
فحين يسير الناس إلى وجهاتهم يحرّكهم منطقٌ سليمٌ ومنفعة مرجوّة، تتحرك الثقافة عكس هذا السير إلى ما يبدو أنَّه لا نفعَ فيه "بالتعبير الأثير على قلب هيدغر" وما لا منطق له "بالتعبير المحبب عند بلانشو".
غياب المنطق هو الجنون، وغياب المنفعة هو البراءة بعينها. وفي كلّ جنونٍ ثمة براءةٌ أصليّة تعفي صاحبها من المساءلة والتحقيق، فمَنْ هذا الذي يؤاخذ مجنوناً على ما يفعل؟ منذ غابر الأزمنة رُفعتْ الأقلام عن المجانين. لكنّ في البراءة نحواً من الجنون كذلك. البراءات كلّها "اختلالات" عقليَّة في هذه السوق التي يتسلّع فيها كلّ شيء، ويأخذ الثمنُ وظيفة القيمة، ويبسط اللهوُ جناحيه على ما هو جوهريّ. وحده مَنْ لا يريد منفعة يقف كالبهلول وسط صياح الباعة وتهريجهم.
نحن البهاليل قررنا أنْ نصدرَ مطبوعاً ورقياً في زمنٍ تكاد أصابع الناس تنسى فيه ملمس الورق، وأردنا لمطبوعنا هذا أنْ يكونَ خالصاً لوجه الثقافة في وقتٍ تتوجه فيه الوجوه إلى البدائيّ الذي يسبق انتقالة الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، إلى الغريزيّ الذي يملي على البشريّة لذتها في القتل والإمعان في الكراهيَّة وتسييج الممتلكات بإزاء الآخرين وحفر الخنادق بانتظار حربٍ هي دائماً في الأفق.
الطائفيّة والتعصب والعنف والفساد وتلويث الهواء بالسموم وتجفيف الأرض من مائها وحرق غاباتها، موارد نافعة جداً للإنسان، ولو لم تكنْ كذلك لما تمسّك بها إلى هذا الحدّ واتخذها طريقة حياة ونهجاً. وما منْ دولارٍ ولا دينارٍ يكسبه المتنفذون الأقوياء العقلاء إلا بانتهاج هذا السبيل المنطقيّ النافع.
ضدّ هذا المنطق وهذا النفع تعمل الثقافة حين تريد أنْ تستحقَّ لها اسماً ووجهاً، بالقليل مما بقي لها من براءة وجنون عليها أنْ تكافحَ ضدّ أنْ تكون سلعة. عليها أنْ تكونَ صعبة في محيطٍ يغرق في الاستسهال، وورقيَّة زمن السياحة الإلكترونيَّة، عميقة حين تُقدّس السطحيَّة، وجميلة حين يقال للقبيح: ما أجملك، لكنْ حين يهبط الملاكُ وتُسحر به الأعين، فالثقافة وحدها ترى اللطخة السوداء في ثيابه التي تثبت أنَّه أقلّ ملائكيَّة مما يدعون.
وحده البريء المجنون يصدر مطبوعاً خاصاً بالثقافة. وها هو أمامكم!