نور الثقافة في كل بيت ضمان اندحار خفافيش الظلام (الملحق الثقافي)

ثقافة 2022/07/23
...

د. حسين الهنداوي
 
هذا المقال مستلهمً كلياً من مقال بالغ الاهمية للكاتبة المصرية الدكتورة شيرين الملواني (الحركة الثقافية في مصر) نشر قبل أيام في صحيفة الاهرام اثار انتباهي على الفور، اذ وجدته ينطبق تماما على حال الحركة الثقافية في العراق المهددة بكل أنواع الاخطار وهو بالتالي عظيم الفائدة لنا ايضا.  
د. طه حسين، كما تلاحظ الملواني، صاحب قلم يخاطب كل الأمكنة والأزمنة؛ وقد تجلى ذلك مع إرساله من قِبل وزارة المعارف المصرية مُمثلًا لها في مؤتمر عُقد في باريس، متبوعًا بتمثيل بلده كمبعوث لمؤتمر دولي آخر عن التعليم العالي؛ وعند عودته، وجدناه وقد وجه قلمه ليخُط واحدًا من أهم الكتب التي ترسم إستراتيجية للثقافة في بلده برؤى وحلول لمشكلات عدة متخطيًا حاجز زمنه ومستبصرًا للمستقبل.
والكتاب هو (مستقبل الثقافة في مصر)؛ والمُطلِع على فحواه سيلاحظ كَون عميد الأدب العربي قد اختص الجزء الأكبر منه للحديث عن التعليم -وهو ما يؤكد الصلة الوثيقة بين الثقافة والتعليم - فنجده ناقش التعليم ومشكلاته دون إغفال ثقافة العامة، وهو ما يدل على تأثيرها الحيوي في الحياة العامة المصرية والعراقية وغيرها، وإن اختلفت المصادر التي تروى منها كل ثقافة على حدة.
وطه حسين يفاجئ المطلع على الكتاب أيضا بمطالبته وتشجيعه لإنشاء مدارس ومعاهد للتعليم الأجنبي بجهود الأفراد والجمعيات مع مطالبته بوجوب خضوعه لإشراف وتوجيهات وزارة المعارف؛ لضمان الجد والحزم والقوة والتنظيم الدقيق؛ كما لفت نظرها لمسه لمعضلة نعاني منها ليومنا هذا؛ وهي أن تعدد أنواع التعليم ومناهجه بين مدارس رسمية وأخرى أهلية او أجنبية كان له أثر بالغ على مفاهيم الانتماء والهوية؛ مما أدى في وقته وسيؤدي مستقبلًا -من وجهة نظره- إلى اضطراب كبير في حياة المواطنين؛ وهو ما جعله يُفرد مواضع عدة في الكتاب لبيان أهمية تعليم اللغة العربية والتشديد على إتقانها مع توحيد منهجها بين التعليم الرسمي الحكومي والتعليم الأجنبي وكذلك الأهلي، وضرورة احتوائها على ما يُحبب الطالب في لغته الأم، بالتوازي مع تدريس مادة التاريخ لطلاب المدارس غير الحكومية وإلزامهم باستيعاب تاريخ وطنهم.
وبالنظر لحالنا اليوم، نتيقن أن اللغة العربية والتاريخ الوطني أساسا وعمودا الزاوية لبناء شخصية متوازنة تحمل مفاهيم الحب والانتماء، فلا لكنْة إنجليزية تطغى على الحوار العامي، ولا عُزلة تامة عن أحداث الوطن مع لهجة التسفيه والسخرية من كل إنجاز؛ وهو ما يدعونا كما نادى د.طه حسين وقتها بضرورة العمل على دحر بُغض اللغة العربية، خاصة في مراحل التعليم الأولى؛ بتعديل طرق تدريسها وتنحية الطرق التلقينية القديمة، وتطوير المناهج لتواكب العصر.
ونأتي للسؤال الأهم الذي طرحه العميد منذ ثمانين عامًا ولا زال يتردد داخلنا (ما معنى الثقافة في مصر؟ وهل ستصمد على مر الزمان؟)؛ وهنا جاءت الإجابة شافية ووافية على لسان د. طه حسين مع مُسلمة عصرنتها في أيامنا هذه؛ أوضح بأن الثقافة مهما تكن ضعيفة أو ناقصة فإنها موجودة؛ معللًا وجودها بأن من أبرز سماتها أنها تقوم على الوحدة الوطنية، وتتصل اتصالًا قويًا بنفوسنا المصرية او العراقية، كما تتصل بالحاضر المصري اتصالها بماضيه؛ حيث تبجل أحلامنا وقدوتنا العليا، وترتبط بالمستقبل وتركض بنا إليه؛ فهي مختومة بختم الطابع الوطني ولا يمكن محوه؛ حيث الاعتدال هو عنوانها؛ تلك الوسطية التي تُبجل الماضي وتثب نحو التجديد المستقبلي دون إسراف، متكئة على اللغة الوطنية الفريدة.
 الثقافة حية ترزق في التراث الوطني الفني القديم، وهي التراث العربي الإسلامي، وهي أيضا كل مكتسب من الحياة الغربية الحديثة، حيث تلتقي كل تلك الثقافات على أرض الكنانة او الرافدين وتستخلص الثقافة المصرية او العراقية كيانها وإطارها من مجموع تلك المتناقضات.
 والخلاصة وإن خَفُتت الثقافة أو ضعفت فهي موجودة ولا ينقصها إلا رعاية تربتها؛ وهي لا تقتصر على نشاط يجوب القرى لفرق الثقافة الجماهيرية، وحفلات الأوبرا الموسيقية، وفرق المسرح الجوال، بل تطور للرؤية الأكثر شمولًا بالتنمية على جميع الأصعدة، وبتغطية أكثر من 90 % من القرى على مدار العام وليس المواسم.
 ومن هنا وكما في مصر ينبغي في العراق أيضا زيادة مخصصات الميزانية الثقافية والتي نعلم أن أغلبها يذهب للعاملين في الحقل الثقافي كمرتبات، ولا يتبقى منها سوى القليل للفعل الثقافي، ولتدريب الملاكات القادرة على مواكبة زمن العولمة وثورة الاتصالات العالمية، مع ضمان دعم مؤسسات المجتمع المدني ورجال الأعمال للإنتاج الثقافي؛ فوجود بيت ثقافة في كل قرية يُعَد حجر الأساس الأول في محاربة خفافيش الظلمات والإرهاب.