الهابيتوس.. بين الثبات والتحوّل في مسرحيَّة {كفن البروكار}

ثقافة 2022/07/24
...

 عباس الغالبي
إذا كانت تصرّفات الفرد هي خلاصة تاريخه ونتاج هوية الانتماء التي يمتلكها في مجتمع ما، ليتشكل لنا بما يعرف بالطبع، ومن ثم نرصد تكرار هذه التصرّفات لنطلق عليها بما يسمى بالعادة، ومن بعد إحساسنا بتلقائيّة وعفوية تلك التصرّفات نصفها بالسجيّة، فكيف يمكن لنا أن نحدد طريقة العيش بنزعتها الفردية في الممارسة الكتابيّة للمسرح؟ 
 
على الرغم من أنّ عملية الخلق الدرامي في الكتابة المسرحيّة وكأنّها مناخ فنيّ، يستقطب بالضرورة ما ينتظره الإنسان من خلال سلوكه وسلوكيات الآخرين، ليحدد بعفويته الموروثة رؤيا تشكّل صورة الفرد الإنساني في المجتمع. وهذا ما اكتفت به الممارسة الكتابيّة لهذا الفن على مدى فترات طويلة، وهي ممارسة توازي فعل القراءة للنص المسرحي، الذي أصبح فيما بعد الرقيب الحميم المخلص لكل ما تجترحه وتبتكره هذه 
الممارسة.
 لقد دأب بعض علماء الاجتماع على توظيف العنف الخفي للإنسان في استكشافات مهمّة لأبعاد الهوية، والسلطة الأيدولوجية، وفعل الحرية، واختيار مبدأ الممارسات الحياتية اليومية، وغير ذلك من المفاهيم التي تكشف  لنا أهم القضايا الاجتماعية التي يخوض غمارها الفرد، ولعلّ أبرز تلك المفاهيم وأهمّها ما يسمى بــ (الهابيتوس) الذي تحدّد على يد (بيير بورديو) وتبلوّر، على الرغم من أن علماء السوسيولوجيا الذين كانوا قبله أمثال (إميل دوركايم)، و (مارسيل موس)، و (ماكس فيبر) وغيرهم، كان لهم الفضل في إعطاء الدلالة للمفهوم وإن لم يوسّعوا فيها مثلما ذهب (بورديو) إلى الحديث عنها بشكل من
التفصيل. 
الهابيتوس الذي استعمله دوركايم بمعنى الطبع، واستعمله مارسيل بمعنى العادة، وتُرجم في العربية بمعنى السجيَّة، نجده عند بورديو طريقة عيش الحياة، ونسقا سلوكيا يعتاده الفرد، ففي السسيولوجية التقليديّة ثمة ثنائيّة راسخة بين حرية الفرد في مجتمعه وحتميّة البنيات الاجتماعية والثقافية التي تحكمه بشكل قهري، في حين يضعنا الهابيتوس أما رؤيا مغايرة ترى أن لكل فرد مجموعة من الاستعدادات التي يكتسبها من خلال تجاربه الخاصة، وهي بدورها تتحول مع الوقت إلى بنيات ناظمة للسلوك الاجتماعي.  
وإذا ما اعتمدنا تصوّر بورديو عن هذا المفهوم فسيمكّننا ذلك من الوقوف على معرفة الاختلافات الكائنة بين الأفراد، ومن ثمّ الوقوف على طبيعة العلاقات وجوهرها الحقيقي، والوصول حينها إلى أقصى مكامن تشكّلات الفعل الحر للفرد، وطبيعة اختياره وتعامله مع الآخر، وهي نتيجة تقودنا بالضرورة إلى طرح السؤال التالي: هل أن طريقة الحياة نتيجة قهرية بعد اعتناق مبدأ معين؟ أم أن المبدأ الذي يتشبّث به الإنسان هو نتيجة حتميّة بفعل طريقة 
الحياة؟. 
هذه التساؤلات وغيرها يمكن تلمس إجاباتها في الكتابة المسرحية، وبالفعل هنالك العديد من النصوص التي توفّر أمامنا مساحة رحبة لمعرفة طريقة تفكير الفرد واختياره لممارسة حياتية تبرهن على الدوام مراوحته بين المبدأ وانحلاله. 
وفي هذا الصدد لا بدّ من الإشارة وفقا لتصوّر بودريو إلى أن لكل إنسان هابيتوس خاص به، وهي إشارة يقتضيها مبلغ التعقيد لفهم كيف يمكن أن يتحوّل الهابيتوس الخاص بالفرد من مبدأ ثابت إلى حالة من التفكك والتوهان وانعدام الرؤيا تجاه مبدأ معيّن من الصعب العدول عنه، إلّا أنّ ضياع الهويّة، واقصد هنا هويّة الانتماء، وانهيار فعل الحرية بسبب الأعراف والتقاليد، ونكوص الوعي الإنساني حينما يذعن لأفعال السلطة وممارساتها وترويضها لحياة المجتمع، تدفع بطريقة الحياة إلى أن تمرّ بحالة من عدم الاستجابة لفهم ما كانت 
عليه.
ومن بين تلك النصوص مسرحية (كفن البروكار) للكاتب الجزائري محمد الأمين بن ربيع، الفائزة بجائزة الهيئة العربية للمسرح بدورتها الحادية عشرة. 
 إنَّ قراءة نص (كفن البروكار) تنتهي حتما بخلاصة تكاد تكون واضحة للأعم الأغلب، حيث انحصارها بمشاكسة الموروث الثقافي والتاريخي، من خلال إثارة المسكوت عنه وتعرية التاريخ الذي ابتنى مجده من خلال التزييف والتلاعب بالحقائق.
غير أن النص يكشف وبصورة مخاتلة عن رصد مكثّف لتحولات الهابيتوس عند الشخصيات.
هذه التحولات التي أفرزت لنا جملة من المواقف المتضادّة التي تعيشها الشخصية في النصّ، مع أنّها مقترحة بحسب اختيار مهنتها لأن تكون بعيدة كل البعد عن افتراضها لدى القارئ كشخصية ذات نزعة فرديّة مشوّهة، ينتهي بها الحال آخر المطاف مشوّهة 
المبدأ.
ولعل اختيار نوع المهن للشخصيات الرئيسة (كالطباخ والخيّاطة) عزز مخاتلة النصّ لرصد تحولات الهابيتوس من خلال مناقشة هويّة اكتسبت كيانها وثبات وجودها من خلال انتمائها إلى الفن، الأمر الذي يستحث الممارسة الكتابية للمسرح أن تراقب نفسها، وتجعل من الفن بوصلة للهابيتوس، وتستكشف معنى الحياة حينما تتحوّل إلى قوة حسبما يراها الفرد، حتى وإن لم يستشعر تحقيقه لذاته. 
تلك حقيقة جلية يكشفها لنا الحوار الذي ابتنى على نوع من المنبّهات أو الايحاءات التي تحرّضنا على فهم الهابيتوس للشخصيات تارة، واستكشاف مبادئها المتذبذبة تارة أخرى، وهو ما أبعد النصّ عن الاشتغال المكرّر بمعالجة مشكلة معيّنة نتيجة نمط تفكير جماعي، بل كان اشتغاله مقتصرا على تسليط الضوء على طريقة الحياة بنزعتها 
الفرديّة.