صورة التلقي بين الرواية والشعر

ثقافة 2022/07/26
...

 مهند الخيگاني
 
من الأخطاء الفادحة، الاعتقاد بأن الرواية هي الجزء الثاني المكمل أو المتطور للكاتب أو الشاعر، إذ إن كثيراً من الروائيين الناجحين اليوم إذا ما عدنا إلى تجاربهم الشعريَّة نجدها ركيكة، بينما هم أنفسهم يبدعون في كتابة الرواية، وهذا يدل على أن الرواية تحتاج إلى خبرة وصنعة ومراس طويل ومعرفة وقليل من الموهبة، لأنّها لا تعتمد على الموهبة في الحقيقة بل الصنعة والخبرة، ونرى من خلال تجارب مختلفة أن هناك روايات تُكتب لمجرد أنّك تمتلك تقنية-عالية ولديك مادة تكتبها، بينما يقيس الكثير من الروائيين والقرّاء الشعر أو مستوى الشعر بحسب الأسماء التي يعرفونها، ولذلك عادة ما تكون آراؤهم غير دقيقة في هذا الجانب. لاحظ: أنت كقارئ أو روائي عندما تريد أن تنشر سطراً أو مقطعاً من رواية ما، فإنّك تختار تلك الجمل والأسطر التي تقترب من الشعر وروحه، إن لم تكن شعريّة في رؤاها باختلاف طفيف في الصياغة، وهذا يعني الكثير.. لو كنت تعلم!
لا يمكن أبداً قياس مدى أهمية جنس أدبي على وفق معيار "الأصعب"، نعلم جميعا بأن الرواية عمل ضخم وليس بالسهولة إنجازه، لكن هذا لا يعني مطلقاً أن بقية الأجناس بمستوى أقل. ولأسباب معينة يظن كثير من الناس ذلك، متناسين أن أدوات كتابة الشعر ليست يسيرة مطلقاً لكنّها تبدو سهلة؛ ذلك أننا نتوجه إلى الشعر منذ بداية دخولنا إلى عالم الأدب، باعتبارنا أمة مأخوذة بالشعر الذي يسكن في حواشيها وجدرانها وكل تفاصيل حياتها، هذا غير أن الشعر بمفهومه العام موجود في كل الفنون ويتخذ صيغًا مختلفة. 
السؤال هنا ماذا لو كنا أمة تميل إلى الرواية منذ البدء لا إلى الشعر هل ستكون صورة التلقي ذاتها؟ آخذين بالاعتبار فكرة بسيطة لو أن الكاتب يولد شاعرًا فقط، أو يولد روائياً فقط، كيف نجح هؤلاء الروائيون بالتحول من الشعر إلى الرواية!. يفترض أن نضيف لنظريات القراءة والتلقي انبهار القارئ الناتج عن عجزه، أي - للتوضيح - إن معظم القراء يرى العظمة والكمال والعلو فيما يعجز هو عن إنجازه وكتابته، فتخيل لو أنه كان بمستوى متدنٍ من القدرة على التلقي. برأيي أنَّ أسَّ التلقي قائمٌ في جوهره على "عدم قدرة القارئ" على القيام بالمثل، ومن هذا يشار إلى المبدعين بالتميز والفرادة وما إلى ذلك.
نشاهد إلى يومنا هذا انبهار جموع غفيرة من القرّاء بنصوص ساذجة، وذلك بحسب: أولاً فهمهم للشعر وثانياً عجزهم عن كتابة هذه النصوص برغم بساطتها!، فكيف لو كانت النصوص تلامس روح الشعر فعلاً؟. 
وكدليل على ذلك: يستخف الكثير من القرّاء بالنصوص ذات اللغة السهلة أو لنقل "السهل الممتنع" بينما يزداد إعجابه بتلك النصوص المزدهيّة باللغة التي لم يألفها، وبأسلوب كتابتها المزخرف المبهر، إذ يظهر عاجزاً بشكل واضح، ذلك لأنّه رأى في النوع الأول كلمات فقط، ولم يتحسس المضمون بشكل دقيق، ورأى في النوع الثاني تزاحمًا متعمداً مصاغاً بشتى الطرق ويعجز عن تقليده أو مجاراته، وليس لأنه مستوى عالٍ من الكتابة بل؛ لأنه لم يفهم اللعبة التي اتخذها هذا النوع من النصوص ويحتاج أيضا إلى وقت حتى تكون له هذه اللغة وامتلاك هذه الأساليب في الكتابة.
لاحظ أيضاً: إن الروائي عندما يمتلك مفاتيح كتابة رواية يصبح الأهم لديه هو المادة التي يود طرحها، مادام يمتلك الطريقة ولا يختلف كثيرا عن الشاعر والفنان بشكل عام، الفرق المهم هنا هو الجهد، وهذا لا يعني أيضا أن الجهد الكبير دائما يساوي إبداعاً كبيراً، فضلاً عن أن وسائل التواصل الاجتماعي تحمل بعدًا مضادًا في تركيبتها الوامضة للسرد الروائي، على عكس الشعر الماضي نحو النصوص المقطعيّة القصيرة والتشذير، لا من أجل التكثيف أو على سبيل الاختزال، إنّما لأجل إرضاء المتلقي العجول، المتلقي الذي تربّى وما يزال على التصفّح لا القراءة، والسرعة لا الإمعان. في حين حفظت هذه البرامج للسرود الطويلة والسرود الروائيّة خصوصاً، مكانتها على الورق، وذلك لصعوبة نشرها إلّا بشكل مقطعي يتناسب مع ثقافة "البوست".