عبد الأمير جرص سائق الدراجة الذي طار إلى السماء

ثقافة 2022/07/26
...

 حميد المختار
 
"الشاعر هو الفيلسوف المَحْض الذي يذهب إلى قمة الجبل لقطفِ آخر نجمة"
"ألدا ميريني"
 
نامَ عبد الأمير جرص فاستيقظَتْ قصائده وبقي حارس الموت الذي اختاره بشكل جيد، (جرص) ظلَّ يرِنّ كثيراً في المجرّات وهو يحلّق على دراجته الهوائيّة في محاولة لإعادة تشكيل العالم، هو الذي أنهى علاقته بالأبديّة منذ أمد بعيد، وصارت الريح آخر معجزاته بعد أنْ كان سيّد الأبد وأكثر مريديه جرأةً في التحول من زوالٍ محض تدعوه الأبدية بالموت إلى موت آخر يسميه (التحوّل)، لكنه في حياته الفانية على أرضنا لم يتحول بل ظلَّ مُمْسِكاً بكُتَيِّبه الصغير الذي صَنعه من بقايا رياحه المنسيَّة في الحقيبة، لهذا فهو لا يحب الأشياء الفانية ويمقت الرّحيل الأبدي وهو في ذروة وجوده السرمدي.
جرص حالَهُ حال الذين يموتون ويتركون أجسادهم تحت الثّرى، ومِثْله تماماً أولئك الذين يَكتبون قصائدهم ويتركونها مِثْل أشباحٍ تائهة على الأرض، وظلّ هكذا في حنين دائم إلى الحلم؛ حلم الكتابة وحلم الالتقاء بالحبيبة وحلم التحليق عالياً، وهذه هي أسراره التي لا يمكن إفشاؤها وستظل أمامنا مثل ضوء خافت يرتجف في أغوار الليل.
الكتابة عنده فعل يتوسط الرعب والنشوة والقصيدة ابنته الصغرى المدلّلة التي تُسرِف في طلباتها وتسرق منه أياماً من المُماحكات الحُلوة، فيَكتُب مرائِرَها كلها كنزفِ حياةٍ في قصيدة، ثم يقول في نفسه: "دعْ العالم يمضي واسترحْ أنتَ بعيداً"، لكنه لم يَدَعْ العالم إنّما العالم هو الذي تركَه، وكذلك لم يَسترحْ بل بقي هو وعوالمه نِدّاً لنِد يقفان على حدود الأبدية وكل منهما يصرخ في وجه الآخر، قلت: "ماذا سأُقدّم لهذا العالم أكثر من مَطَره؟! ماذا سأَرث عنه أكثر مِن موته وقد ورِثَ الموت؟!
لكنه كان موتاً محلِّقاً بجناحين أبيضين يُحلِّقان في سموات لم تطأها أجنحة العصافير أو الملائكة ..كان رغم انحناءَة جسده وهبوط رأسه إلى الأسفل كدُرّاقة ناضجة، ظلّ مُصِرّاً على التسكّع مع رفاقه ومُجايليه، وأنا لم أكن مِن جيله كنتُ قد سبقته إلى جيل المِحَن والفتن والخسارات، يتجاوز هو كلّ ذلك ويأخُذُني من يدي إلى المقهى ثم المطعم ثم شارع الرشيد ثم شارع المتنبّي ثم نعود إلى الجريدة وإلى زاويته التي يلتهم فيها قصائده كجائع أمام صحن مليء بالأرز، هذا ما سيثبته للعالم بكل ما أوتي من شعر وقهر ورغبة ومِحنة وتمرّد، بعد أنْ ترك سلالات صمته التي تشبه بيوض الرخ في أعشاش السماء، ترك مُغريات السُّلطة وسُلْطة الصفحات والصفعات الثقافيَّة مُتّجهاً إلى أماكن معزولة يسمّيها -ربيع الفراديس- رغم أنّ كل شيء كان مُضِرَّاً ومُلوّثاً حتى لياليه وأمسياته، كان ينام بثياب حُزنه الرَّث مستعداً لمقابلة أجمل النساء وأجمل القصائد تلك التي تشبه الخَمرة الرّقراقة التي تَذرِف زبَدَها على المائدة، وحتى في موته حين مات بقي مُشعّاً مثل الشمس وهي ترقد خلف الغيوم السوداء، أقول ربما يفعل بالشِّعر كما يفعل السيّاب الذي كان يُغطّي عيوبه في شِعره وكان له ما أراد، وُلد في عمر الطفولة التي تناهز عمر القصيدة ورشفة الكأس ثم ينتهي كل شيء إلّا دورانه في الأفق الذي لا يستطيع بلوغه، بحيث يترك الزمن يتدفق داخل روحه وخارج جسده بلا عُمر ولا سنوات ولا حتى ساعات.
بقي الشاعر الذي فيه ينبض إلى الأبد ولأنه مؤمن (تشيزاري بافيزي) الذي يقول: "الأدب دفاع عن النفس ضد هجمات الحياة." ...
صار جرص حريصاً على مداومة هجوماته على الحياة مع النفس وهو الذي كان حتى آخر قطرة مِن بحرِه حرّاً كطائر ضال لا يَقدِر على النسيان ولا ينسى كيف أنه في بداية خليقته كان نهراً يحكي للعصافير قصة القطرات التي اتّحَدَت في ذاته متحوّلة إلى نهر، ولأنّه بقي في سيرورته القديمة صار يلعب مع اللا مرئي في الروح وفي الجسد وفي عروش السماء ومجرّاته، يَأخذ الهواء الذي يَرفع أجنحة الفراشة ويَصنع منها ضحكة طفل.. لذلك سأعيد صياغة كلمات الافتتاح بسؤال آخر، بِمَ يحلم الشاعر حين تنام قصائده؟ أو أي حُلم تراه تلك القصائد وهي تَرى شاعرَها يستيقظ من جديد؟.