الحرب

ثقافة 2022/07/26
...

 فرانسوا جيبو
 ترجمة: كامل عويد العامري
في آب (أغسطس) 2021، وضع إعلان محبي أدب سيلين، في حالة نشوة: فقد عثر على المخطوطات الشهيرة المفقودة لمؤلف (رحلة إلى أقاصي الليل). وقد تناولت صحيفة "الصباح" القصة الكاملة لهذا الاكتشاف في عددها الصادر في
 12 آب 2021، أعقب هذا الإعلان المثير عدة أشهر من الانتظار، وها هي: أول رواية غير منشورة من تأليف لوي فرديناند سيلين التي صدرت في 5 مايو- آيار 2022 عن دار Gallimard. بعنوان الحرب: بـ 80 ألف نسخة، رواية مؤلمة عن الحرب العالمية الأولى. ومن المفترض أن تصدر روايتان أخريان غير منشورتين للكاتب في خريف هذا العام، هما: طفولة، 
ولندن عن الدار نفسها.
بعد مرور ستين عامًا على وفاته، صدرت هذه الرواية التي تدور أحداثها خلال الحرب العظمى وتركز بشكل أكثر تحديدًا على إصابة المؤلف وعواقب تلك الإصابة.
 إن المئتين والخمسين ورقة التي وضع لها سيلين نفسه عنوان "الحرب" وردت في رسالة إلى ناشره روبير دينويل بتاريخ 16 يوليو 1934: "لقد قررت نشر (الموت بالمجان) أولا، وفي السنة المقبلة (الطفولة)، و(الحرب)، و (لندن)".
هذا الكتاب قصة ورواية في الوقت نفسه.. في البدء يروي سيلين أنه أصيب بجروح خطيرة في ذراعه اليمنى وربما في رأسه، في 27 أكتوبر 1914، في بلجيكا، في بولكابيل، وهو ملقى على الأرض ومغطى بالدماء، يفقد وعيه بين حين وآخر، مع قتلى من حوله، يموتون من الجوع والعطش، قبل أن يتمكن أخيرًا من الوقوف على قدميه.
تتميز هذه الصفحات بلهجة من الحقيقة تشير إلى التفكير بأن لها علاقة بذكريات حقيقية، بما في ذلك عندما يأتي جندي إنجليزي لمساعدته، والذي يتحدث معه بالإنجليزية ويشكره على العودة إلى )خطوطنا).
في رسالة أرسلها في 5 نوفمبر 1914 إلى شقيقه شارل، كتب والد لوي ديتوش: أصيب في معركة إيبر عندما كان وهو على خط إطلاق النار، يحمل أوامر الفرقة إلى عقيد مشاة. 
كانت الرصاصة التي أصابته بالارتداد مشوهة ومسطحة بالصدمة الأولى؛ فيها نتوءات وحواف متشظية من الرصاص أحدثت جرحاً كبيراً إلى حد ما، وكسراً في عظم الذراع اليمنى. 
وقد استخرجت هذه الرصاصة عشية وصولنا إلى سريره. 
ولأنه لم يكن يريد منا أن نخدره فقد تحمل بشجاعة كبيرة ألم استخراجها.
في الرسالة نفسها، أوضح فرديناند ديتوش أنه كان عليه السير سبعة كيلومترات على الأقدام ليصل إلى سيارات الإسعاف حيث جرى تجبير الكسر. 
كان من المفترض أن ينتقل من يبر دونكيرك في قافلة لكنه لم يستطع المضي حتى نهاية الرحلة لأن الألم كان شديدًا للغاية، فاضطر للنزول في هازبروك ومنها نقله ضابط إنجليزي إلى الصليب الأحمر".
كتب القائد شنايدر، قائد سرية الخيالة الثانية من فوج سلاح الفرسان الثاني عشر، الذي خدم فيه لويس ديتوش، إلى والد الأخير: لقد أصيب ابنك للتو، فسقط ببسالة، وهو يواجه الرصاص بروح وشجاعة لم يفقدها منذ بداية الحملة.
هذا السلوك البطولي تؤكده الشهادة التي مُنحت له فيما بعد: في أثناء الاتصال بين فوج المشاة ولوائه، تقدم متطوعا ليحمل تحت نيران كثيفة، أمرًا كان ضباط ارتباط المشاة مترددين في إرساله. 
حمل هذا الأمر وأصيب بجروح خطيرة أثناء مهمته.
ولقاء هذا العمل، حصل على الميدالية العسكرية، ووسام جوقة الشرف لضباط الصف والجنود، في 24 نوفمبر، ثم على وسام صليب الحرب الذي سُنَّ قانونه في نيسان 1915.
لذلك، تتوافق الصفحات الأول من الرواية مع ما حدث بالفعل في بولكابيل في 27 أكتوبر 1914، وعلى الرغم من وجود بعض الشكوك حول ملابسات إصابة  الرأس يبدو أن سيلين تعرض لها في اليوم نفسه، نتيجة انفجار ألقى به على شجرة. 
لم تثبت صحة هذه الإصابة أبدًا، ولكن ليس هناك شك في أن سيلين كان  يشتكي طوال حياته من ألم عصبي، مصحوبًا بطنين الأذن العنيف، كما لو أن القطار يمرّ عبر رأسه.
وكان مارسيل بروشار، الذي يعرف لوي ديتوش في مدينة رين، يتحدث عن تغير في طبلة الأذن بسبب ضجيج الانفجارات في ساحة المعركة. 
أما والد زوجته، الأستاذ فوليه، فقد عزا هذه الأمراض إلى سدادة من شمع الأذن وممارسة نفخ البوق مما أدى إلى تفاقم المرض.
 لاحقًا، اعتقد إيلي فور، الذي كان طبيباً، أنه مرض مينيير، الذي أشار إليه سيلين في العديد من كتاباته.
"ومرض منيير هو مرض مزمن يصيب جهاز التوازن.
وهو مرتبط بخلل في توازن ضغط السوائل في الأذن الداخلية".
وكشفت السيدة هيلغا بيدرسن، وزيرة العدل الدنماركية السابقة والرئيسة السابقة لمؤسسة ميكلسن، وثيقة كانت بحوزتها، مكتوبة بخط يد سيلين، التي تشكل نوعًا من الفحص الصحي ويمكن أن نقرأ فيها:
الرأس. صداع دائم (أو شبه دائم) (ألم في الرأس) أي دواء ضده عديم الفائدة تقريبًا. 
أتناول ثمانية أقراص من دواء الغاردينال المهدئة يوميًا - فضلاً عن حبتين من الأسبرين، يجري تدليك رأسي يوميًا، وهذا التدليك مؤلم جدًا. 
أعاني من تقلصات في القلب والأوعية الدموية وتشنجات رأسية تجعل كل الجهود البدنية مستحيلة - (بما في ذلك التغوط).
الأذن: الأذن اليسرى صماء تمامًا مع أزيز وصفير مكثف غير متقطع. 
كانت هذه حالتي منذ عام 1914 عندما أصبت للمرة الأولى وألقى بي انفجار قذيفة على شجرة.
أكدت لوسيت المنصور، التي شاركت حياة سيلين منذ عام 1935 حتى وفاة الكاتب في عام 1961، الصداع الذي ذكره في العديد من رواياته ورسائله. تقول الحكاية إنه تعرض لعملية اجراء ثقب في الجمجمة، وهي حكاية تركها تنتشر من دون أن ينكرها أبدًا. وهكذا، في مقدمة الطبعة الأولى من روايته (رحلة في أقاصي الليل) التي نشرت في عام 1962، تحدث البروفيسور هنري موندور، وهو طبيب أيضاً، عن "جمجمة مكسورة"، عن "رأس المسكين المكسور"، وعن "جمجمته المتصدعة". ولم يصحح سيلين ذلك عندما أُرسل النص إليه. وكتب مارسيل أيمي، في (دفاتر هيرن): "نتيجة لعملية ثقب استلزمه جرح في الرأس، قال إنه تعرض لعملية خاطئة، فقد كان يعاني دائمًا من صداع نصفي عنيف"، ومع ذلك، فإن رواية سيلين بأنه تعرض لضربة في الرأس هي الأكثر ترجيحًا - ويبدو أن الصفحات الافتتاحية لرواية (الحرب) تتوافق مع الحقيقة.
من الشخصيات المهمة في هذا الجزء من الرواية الممرضة اسبيناس، التي يبدو أنها تستغل الموقف للانخراط في ممارسات بغيضة أخلاقياً مع الجرحى. في هذا الصدد، يجب أن نفرق مرة أخرى بين الأسطورة والواقع.. وعلى هذا النحو، لا تستطيع (الحرب) دعم الشائعات التي تفيد بأن ممرضة تدعى أليس ديفيد أنجبت فتاة إدعت أن سيلين والدها. لقد تخيل الكثيرون هذا الأمر منذ اكتشاف المخطوطة، من الواضح من دون قراءتها، حتى أن البعض ادعى أن سيلين اعترف بأبوتها، وهذا ليس هو الحال على الإطلاق.
من ناحية أخرى.. أن السيدة هيلين فان كاويل، زوجة صيدلاني تعيش في 29 شارع دي ليجليز في هازبروك، استقبلت في منزلها الرقيب ديتوش، في اجازاته، وأن الممرضة، أليس ديفيد، قد أعجبت به وأصبحت صديقته، وربما أكثر من ذلك بقليل. وفقًا لهذا الشاهد، الذي توفي قبل قرن من الزمان، لم يكن سيلين عشيقا لأليس فحسب، بل كان لديه ابنة لم يرها أحد من قبل.. ولكن هذه المعلومات، يبدو أنها لا تتوافق مع الحقيقة.
كانت أليس ديفيد تبلغ من العمر أربعين عامًا، وكان لوي ديتوش في العشرين من العمر، ولم يعرف عنها  أحد من قبل بأن لها عشيق، فقد كانت متدينة جدًا وتعيش دائمًا في منزل العائلة بمشاركة العديد من إخوتها، وكان أحدهم كاهنًا. وفي الرسائل القليلة التي أرسلتها إليه عند مغادرته، لم يكن هناك أي سؤال عن طفل، حتى ولو بالإشارة. إذا كان صحيحًا أن رسالتها المؤرخة 9 في فبراير 1915 قد انتهت بـ "مساء الخير يا عزيزي"، فقد انتهت الرسالة السابقة بتاريخ 31 يناير على النحو التالي: "وداعًا لأخي الحبيب، شكرًا جزيلاً لك على رسالتك، واحتضنك من كل قلبي - متى تبعث صورتك؟".
كان الأمر الذي لا يُصدق على أقل تقدير إن رواية الحرب تنتهي بالمغادرة إلى إنجلترا، على الرغم من أنه من المعروف أنه بمجرد استعادة لوي ديتوش عافيته غادر إلى لندن، حيث عمل في القنصلية العامة لفرنسا من مايو إلى ديسمبر 1915. وتزوج من سوزان نيبوت في 19 يناير 1916. ومن إنجلترا بالتحديد، أبحر في 10 مايو 1916 على متن سفينة تابعة للشركة البريطانية والأفريقية، المتجهة إلى دوالا في الكاميرون. 
تُظهر هذه الحلقة الأخيرة وحدها مدى روعة هذه الرواية، بسبب التقارب بين المأساة والكوميديا وبسبب حقيقة أن سيلين عبر فيها، كما فعل في رحلة إلى أقاصي الليل، عن رعبه. من الحرب والموت، وهما ثوابت في جميع أعماله. وقد واجه سيلين الموت في مناسبات عديدة، أثناء الحرب العظمى على الجبهة وفي المستشفيات التي عولج فيها، في Le Chella في عام 1939، وأثناء إقامته في ألمانيا، من أغسطس 1944 إلى مارس 1945، وأكثر من ذلك في ممارسة مهنته كطبيب.