حفّارو الليالي العميقة ملحق "الصباح" الثقافي

ثقافة 2022/07/27
...

أحمد عبد الحسين

الانشغال بالثقافة مصنعُ أملٍ كبير، ومن دون تقصّد منه فإنَّ مَنْ يجلس إلى طاولته يقرأ كتاباً أو يكتب أو يتأمل في شأنٍ ثقافيّ يمارس فعل مقاومة لهذا الظلام الذي يريد أنْ يكون سيّد العالم.
عصرنا هذا عصر الرؤى القياميَّة. يبدو كلّ شيء فيه يستعجل القيامة، يتساوى في ذلك الإرهابيّ الذي يريد تفجير نفسه بآخرين للتخلص من انتظارٍ مضنٍ والوصول إلى جنته التي يعبّد طريقها بالجثث، مع الملياردير الذي يسمّم هواء الأرض بدخان مصانعه ويسمّم النفوس بأخلاق ماله، مع السياسيّ الذي يمزق حيوات الناس ليرقّع فيها حياته، مع المنغمسين بأخبار آخر الزمان ويريدون له أنْ يحدث الآن لتكون لهم حصَّة فيه، مع كورونا والأوبئة وهي تتناسل أجيالاً «مطوّرة» تحصد أرواح الملايين، مع جفافٍ يضرب الأرض وعواصف ترابيَّة تغطيها، مع سباقٍ فضائيّ محمومٍ لاكتشاف «أرضٍ» أخرى غير هذه الأرض، مع قلوبٍ مليئة بالرمل ونفوسٍ مصممة للاحتراب وضمائر أتلفها المال الحرام. يبدو كلّ شيء يسير إلى نهايته.
لكنْ على عتبة القيامة هذه، هناك مَنْ لم يزل محكوماً بأملٍ غامضٍ، يقرأ ويكتب وينتج كما لو أنه أوّل الزمان لا آخره.
الانشغال بالثقافة مصنعُ أملٍ كبير، ومن دون تقصّد منه فإنَّ مَنْ يجلس إلى طاولته يقرأ كتاباً أو يكتب أو يتأمل في شأنٍ ثقافيّ يمارس فعل مقاومة لهذا الظلام الذي يريد أنْ يكون سيّد العالم.
كتب ريلكه «بحثتُ عنك أيها الكنزُ، حفرتُ في الليالي العميقة». في الليالي التي ينشغل فيها أغنياء أغبياء أقوياء بتقريب العالم من نهايته، يجلس بضعة نساء ورجال تكسو وجوههم سيماء فقر منير، ينقبون في أرض الليالي عن كنزهم الوحيد، كنز يزدريه سائر الناس لكنهم سيعرفون عمّا قريب أنه أنفس مقتنيات الكائن منذ أنْ قفز من الطبيعة إلى الثقافة فصار إنساناً.
الثقافة هي الحجر الذي نسيه البناؤون وسيتذكرونه قبيل أن يتهاوى البناء على رؤوس أصحابه.
وبينما يتهيأ الناس لقيامة صنعوها بجهلهم وطمعهم وكراهياتهم، يأتي الأمل من حيث لا يحتسبون، من هذا الانشغالات البريئة، من قصيدة أو قصة أو نصٍّ فلسفيّ.
مقاومو الظلام حقاً هم أولئك الحافرون في الليالي العميقة بحثاً عن الكنز الذي لا اسم له سوى الأمل.