البعد الثقافي في النص المسرحي

ثقافة 2022/07/28
...

 أحمد شرجي
إذا كانت السوسيولوجيا تبحث عن المجتمع داخل النص، فإننا نبحث عن الثقافة داخل النص. فكيف ينتج النص ثقافته الخاصة؟ وهل يستغني العرض المسرحي عن علامات ثقافة النص؟ لا يمكن الحديث عن النص دون ربطه بمرجعيته الثقافية وبيئته التي ولد ونشأ بها. ورغم أن دراما اللا معقول قد سعت إلى فض التشابك بين النص وزمكانيته، ومن ثمّ تجريده من انتمائه الثقافي، بعد أن رفضت أبوة المذاهب الأدبية الأخرى، فإنها من زاوية أخرى هدفت إلى ترسيخ الثقافة الإنسانية بشكل عام.
فهل يمكن قراءة الظاهرة الاجتماعية قراءة نصية؟ وهل يمكن للثقافة أن تنتج نصها الخاص؟ يحتاج النص الثقافي إلى قارئ خاص، لأن علاماته غير مرئية وتوجد في هامش النص كما يقول رولان بارت. فكل ما أنتجه اسخيلوس، وسوفوكلس، هي نصوص ثقافية تنتمي إلى ثقافة المجتمع الإغريقي عبر السلطة الدينية، وهدفها من عرض ارتكاب المعاصي التي تغضب الآلهة، هو التحكم بمصائر أفراد المجتمع، عبر فرض مفردات الثقافة الدينية. ولذلك، فإن التشكيك يعد معصية كبرى تروم إسقاط القدسية الدينية. ويكمن جوهر ذلك الخطاب الدرامي بخلفيته الثقافية، في آلية التطهير بما تحمله من حمولات ثقافية داخل المجتمع الإغريقي آنذاك، حيث للسلطة الدينية موقع خاص، تبتغي من خلاله إخضاع المجتمع، طالما أن الآلهة تهتم بتسيير حياتهم.فكيف يفهم القارئ العادي نص الأورستا لاسخيلوس على سبيل المثال، بمعزل عن الجذور التاريخية التي بُني عليها النص؟ لقد كان الجمهور الإغريقي ملما بكل التراجيديات التي تقدم له سنوياً، ومدركا كنهها التاريخي. ويستلزم فهم نص الأورستا معرفة الأحداث التي سبقت المشهد الأول: “قدوم أجامنون”، إذ تخبرنا الأحداث بقصة الأخوين “أتريوس وثستس” أبناء “بيلوس”. لقد ارتكب ثستس فعلاً شنيعاً عندما قام بغواية زوجة أخيه أتريوس، وأنتقم هذا الأخير انتقاماً فريداً من نوعه لا يمكن أن يتصوره عقل بشري، إذ تظاهر بالصفح عن أخيه، وعمل على دعوته لوليمة فاخرة على شرفه داخل القصر، وقدم له لحوم أبنائه في الأطباق كي يأكلها الأب الغازي، ونتيجة لذلك حلت اللعنة على آل أتريوس.
يصعب فهم نص من دون ربطه بسياقه الثقافي، حتى لو كان ينتمي زمنيا للمسرح الإغريقي بتراجيدياته وكوميدياته، أو إلى الكلاسيكية الجديدة. فكتابة الفرنسي “جان راسين” عن الحب والغيرة وتصويره السوداوي للبشرية، ما هو إلا انعكاس للجانسانية، التي تربى عليها. لقد كانت الجانسانية هرطقة بروتستانتية داخل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وترى أن البشر تسيطر عليهم الخطيئة الأولى، وكتب عليهم إما الخلاص أو اللعنة ولا يمتلكون حرية القرار. وإذا كانت نصوص راسين تتخذ من الجانسيانية مرجعية ثقافية، فإن أغلب نصوص “موليير” اتخذت من المجتمع بنيات مرجعية لشخصياته، فقد تناول المثلث الاجتماعي: الزوج، والزوجة، والعاشق، حتى أصبحت هذه الشخصيات أيقونات مولييرية، واستمرت الرؤية المولييرية لسنوات طويلة في المسرح الفرنسي.
وينطبق الشيء ذاته على نصوص وليم شكسبير خاصة التاريخية وفي هذا السياق، يرتبط نص رتشارد الثالث بعمقه التاريخي الذي لا يمكن الانفكاك منه. فهو من الناحية التاريخية تتمة للأجزاء الثلاثة من مسرحية هنري السادس، ويبدأ من حيث ينتهي الجزء الثالث من تلك المسرحية، التي تصور نهاية الصراع الدموي بين أسرتي “لانكستر ويورك”، وهو الصراع الذي بدأ في عهد هنري السادس وانتهى بمقتل رتشارد الثالث على يد أتباع هنري السابع وسيطرته على الحكم. وتزوج الملك هنري السابع إليزابيث سليلة أسرة يورك، ووضع بهذا الزواج حدا للصراع الدامي بين العائلتين. ونقف في نص هنري السادس عند الدور الكبير الذي قام به رتشارد الثالث، فقد كان ينبئ بطموحه وما يعتريه من شر، تمهيدا للوصول إلى العرش، بإصرار ووحشية وسادية مرعبة. 
ومن هنا نتبين، بأنه لا يمكن التغاضي عن الإرث التاريخي لنص رتشارد الثالث، ونص أورستا لإسخيلوس، لأن كليهما يطرح قضية ثقافية، تنتمي لبيئة النص وثقافته. وفي حالة انتقالهما إلى ثقافة أخرى، فإنهما سيحملان علامات الثقافة التي ينتجها العرض، وفق قصدية جديدة تنتمي لثقافة المخرج، وليس ثقافة المؤلف.
إن النص الثقافي يحمل العلامات الاجتماعية، لأن الظواهر الإنسانية تملك دائما خاصية البنيات الدلالية. لكن هذه البنيات لا يمكن فهمها وفك شفراتها إلا في سياق مقاربة بنيوية توليدية، وأكد كولدمان من خلالها على ربط الفهم والتفسير. فالفهم يفضي إلى التعرف على البنية الدالة، أما التفسير فيسمح بربطها البنية الجمالية بالواقع الاجتماعي. ومن هنا تبرز لنا بنيتان: البنية الدلالية، ورؤية العالم، لأن “الظواهر الإنسانية لها دائما طابع البنى الدلالية، ووحدها الدراسة التوليدية تستطيع من بين مختلف الدراسات الأخرى، أن تحقق في الآن نفسه فهما وتفسيرا لهذه الظواهر”. وبذلك تتطلب البنيوية التوليدية حسب كولدمان مسارين معرفيين، هما: مسار الفهم والذي يتطلب تحليلا للبنيات الداخلية النص للإمساك بكل عناصره. ومسار التفسير الذي ينص على الرجوع إلى المنظومة الاجتماعية التي ولد فيها النص، وتبويبها ضمن إطارها التاريخي. فالمنظومة الاجتماعية، منظومة متحركة زمنياً نتيجة تراكم التجارب الاجتماعية للفرد لكونه جزءا منها. لأن “التغيرات الاجتماعية في نظام ثقافي ما ترتبط بتراكم في المعرفة أثمرتها الجماعة البشرية، وترتبط كذلك باحتواء الثقافة على العلم بوصفه نظاماً مستقلاً نسبياً وله مبادرته الخاصة”. 
إن المكان الجغرافي مهما كان حجمه، فإنه قابل للقراءة والفهم والتفسير ما دام يرتبط بالذاكرة الجمعية للمجتمع. وهو ما يتيح إمكانية كشف المسكوت عنه، وشكل هذا النوع من التحليل كنه حفريات الفرنسي رولان بارت، أي: تأسيس المعنى على أشياء بلا معنى، إنه المعنى الإيحائي الذي يمكن وجوده في أماكن لا نتوقع وجوده فيها. ولعل أكثر العلامات التي تحكم تصوراتنا ورؤيتنا للعالم، هي تلك التي تبدو من المسلمات وغير قابلة للتأويل.
يكاد لا يخلو نص مسرحي باستثناء دراما اللامعقول نسبياً من الإشارات الدالة على المكان، وهي علامات ثقافية تشير إلى ثقافة النص. وليس من الضروري أن يحمل النص ثقافة المؤلف، لأن هناك العديد من النصوص ذات طابع تاريخي. فكل نصوص شكسبير تشير ابتداء إلى المكان الجغرافي. ورغم أن البعض قد أنكر وجود الإرشادات الإخراجية في نصوص شكسبير، لكن كل النصوص التي وصلتنا عن طريق الترجمة حملت تلك الإرشادات. وإذا سلمنا بفرضية انتفاء تلك الإرشادات، فإنها تظل حاضرة على مستوى الحوار، إذ يشير المؤلف إلى العلامات الثقافية منذ أسطره الأولى في مسرحية هاملت مثلا، وكذلك في مسرحية الملك لير وينبغي أخذها بعين الاعتبار لعلاقتها الترابطية
 بالأحداث.
تشكل العملية البحثية التي يتبعها الممثل وبقية منتجي العرض المسرحي، منطلقا مهما لتفكيك علامات الشخصية والنص، الأمر الذي يحتم على الممثل دراسة المرجعية الثقافية للنص المسرحي التي شكلها المؤلف. وليس من الضرورة أن يحمل النص مرجعية العرض الثقافية. وكذلك دراسة مرجعية العرض الثقافية: وتمثل خطوة مهمة للوقوف عند خصوصية العلامات واشتغالها داخل
 العرض.