الرقيب الفكري الدائم

ثقافة 2022/07/28
...

 أ.د.أحمد حسين الظفيري
 
أتذكر جيداً أننا حفظنا قصيدة فخمة بمعانيها وأسلوبها كانت موجودة في المنهج الدراسي سابقاً، ولا أعلم إذا كانت الآن موجودة أم لا، وكان مطلع 
القصيدة : أَقولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَعَاعاً مِنَ الأبطَالِ وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
والقصيدة للشاعر قطري بن الفجاءة، العجيب أن لا أحد كان يركز على حياة الشاعر بل حتى على اسمه، وأتذكر أنني سألت أحد أساتذتي عنه فقال لي: دعه فإنه من الخوارج! وهنا عدت فسألته: هل إذا كان الشاعر من الخوارج فهذا يعني أن شعره غير 
جيد؟
قال لي: عليك بحفظ هذه القصيدة ولا علاقة لك بأي شيء آخر!
أتذكر هذه الحادثة بعد حضوري في إحدى المناقشات العلمية لأطروحة دكتوراه، والتي طلب فيها أحد الأساتذة المناقشين أن يحذف الطالب كل رأي أو خبر يتعلق بالخوارج، علما أن الطالب كان يدرس حقبة أدبية يقع ضمنها الخوارج... وهذا يتزامن مع معلومة عرفتها قبل أيام عن إحدى الكليات العريقة في العراق، والتي باتت اللجنة العلمية فيها ترفض دراسة أي موضوع في الأدب الإسلامي، حفاظا على ما يسمى بـ (السلامة الفكرية)، ولكي أكون أكثر وضوحاً، هم يحاولون اجتزاء مقاطع من التاريخ وإلغائها، فكما حاول النظام السابق إلغاء مجموعة كبيرة من الشعراء والمطربين والمثقفين، بعد أن قام بمطاردتهم وسحب جنسياتهم ومنع تداول أسمائهم وأعمالهم في الوسط الثقافي والأكاديمي، تحاول المؤسسة الأكاديمية اليوم لعب الدور ذاته، فتعترض على دراسة أية ظاهرة أو اسم فيه التباس، بل وصل بنا الحال إلى أن يتخوف بعض الأساتذة من قراءة ومناقشة قصائد تتعلق بثورة 
تشرين!
ومن المفترض أن يكون العقل الأكاديمي عقلا منهجيا وعلميا، يحاول أن ينظر إلى الأمور بموضوعية تامة بعيداً عن أية ايديولوجيا أو أهواء تجره خارج سياق البحث العلمي الصرف، وهذا ما لا نجده إلا في حالات نادرة في مؤسساتنا، بحجة الحفاظ على الهوية الوطنية واللحمة وما شاكل ذلك من مصطلحات سياسية واجتماعية، لا تمت لمفهوم البحث العلمي بصفة، أصبحنا نلغي ببساطة الآراء والقصائد والشخصيات، فقصيدة للشاعر أحمد عبد الحسين شكلت لنا أزمة في مناقشة كنت طرفا فيها، بحجة أن القصيدة تخاطب الذات الإلهية بطريقة لا يجدها الأستاذ المناقش ملائمة، مع أن أبسط قارئ للشعر سيفرق بين المفهوم المجازي والحقيقي، وسيعرف أن كلمة (الرب) لا تعني (الله)، بل هي كلمة تستعمل حتى للمسؤول عن الأسرة فنسميه (رب الأسرة)، وأصر هذا الأستاذ على حذف القصيدة من الأطروحة، محذرا بقية الطلبة الحاضرين من تكرار استعمال نماذج أدبية لا تحترم الدين والمجتمع!
لقد أيقنت أن القيود التي نضعها حول عقولنا لا تفرض علينا، بل نبتكرها نحن ونحاول قدر الإمكان أن نحجم أفكارنا داخل سلاسل وجدران، تخاف من مواجهة الحاضر ومجادلته، كما تخاف الماضي وتحاول أن تضعه ضمن خانة المسكوت عنه، لقد انتقلت عدوى الدراسات الدينية إلى بقية التخصصات، فأصبح طالب علم الاجتماع والفلسفة والأدب يتجنب كل ما يتجنبه أساتذة الدراسات الدينية بحجة التحريم والكراهية، وانتقلت تلك المصطلحات لتصبح عنوانات كبيرة على أبواب مؤسساتنا 
الأكاديمية.