مفارقة العودة لمناهج الأدب القديمة

ثقافة 2022/12/28
...

 حمزة عليوي  

أتذكر الآن أنني قد حاورت مرة من يوصف بأنه أحد رواد النقد الثقافي في العالم العربي. أقصد هنا الدكتور عبد الله الغذامي. كان ذلك شتاء 2005، وفي القاهرة. وأتذكر جيدا أنني قلت له إنه سيأتي يوم ويوصف به كتابه «النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية» بأنه «ردة» ثقافية أدبية؛ فهو يعود بالنقد العربي لمرحلة سابقة على النقد النصي. ولقد اكتفى الرجل بابتسامة جميلة ثم صمت. وفي الحقيقة أن الأيام قد وضعت منجز الغذامي ومن تابعه أمام إخفاقات هذا النقد، الذي يُفيد من مقولة الهامش وسردياتها كثيرا في تغذية «شعبوية» النقد الثقافي.

والدفع به بعيدا صوب المقدَّمة من أي «نقد» يُذكر في هذا المقام أو غيره. نعم، ثمة ما يمكن تسميته بـ «الانقلاب» المنهجي في أقسام اللغة العربية ضمن الجامعات العراقية، بل وفي قراءة الأدب العربي، القديم قبل الحديث. حدث هذا الانقلاب خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا بد أن هناك محاولات سابقة مهَّدت السبيل لهذه الانقلاب الكبير، حتى صار الأمر واقعا ولا سبيل لإنكاره. نتحدث هنا عن هيمنة شاملة للدراسات الثقافية على الدراسات المعدَّة في أقسام اللغة العربية بالجامعات العراقية. هذه الهيمنة حاصلة ولا سبيل لإنكارها، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على عنوانات الرسائل والأطاريح الجامعية، بل لندخل في الفحص حتى البحوث التي يكتبها «الأساتذة» المشرفون على إعداد الباحثين والطلبة، وأغلبها يبحث في إشكالية النسق الثقافي في هذه الرواية أو تلك القصيدة. أشدد، هنا، على موضوعة «الانقلاب» المتحققة في العقد الأخير؛ ذلك أن أي: انقلاب» لا بد أن يحدث على أمر، أو سلطة، أو وضع سابق عليه. وهو بالضد، تماما، مما ينقلب عليه. وغالبا ما يُعمد «المنقلب» إلى «تلفيق» سرديات تحط من شأن المنقلَب عليه، وتعلي من شأن سردية «الانقلاب» ذاته. هذا شأن الانقلابين دائما. لكن على ماذا انقلب «النقد الثقافي» أو «الدراسات الثقافية»؟ إنها «انقلبــت» على المناهج النقدية السابقة عليها، ولا شك وهي المناهج النصية التي أقصت المناهج الاجتماعية/ الخارجية عن دراسة الأدب. 

من النص إلى النسق!

ظهرت نظريات النص بمدارسها وأزمنتها المختلفة، ابتداء من كتاب البوطيقيا لأرسطو، وصولا لمحاولات المنظرين الألمان، فالشكلانيون الروس مطلع القرن العشرين، وليس انتهاء بالبنيوية، كل هذه النظريات حاولت أن تجيب عن السؤال الأهم، وهو ما الأدب؟ هذا السؤال شغل المنظرين الأدبيين كلهم؛ وكان في الطليعة من أسئلة المدارس النقدية. 

ونحن نتذكر، جيدا، مبلغ الإثارة «الثقافية» بالسؤال ذاتها، عندما قرأناه على غلاف كتاب معروف لأشهر كتّاب فرنسا «سارتر»: ما الأدب؟ نقول الإثارة النابعة من ثقافة تخصصية مشبعة بالأسئلة وأجوبتها المختلفة والمتناقضة، غالبا، كما هو حال الثقافة الأوروبية بطبعاتها وبيئاتها المختلفة. لكن السؤال نفسه تولى منظرون كثيرون بأوقات مختلفة من القرن الماضي، وحتى مطلع القرن الحالي، الإجابة عنه. وقد نزعم أن الإجابات تنوعت وأغنت كثيرا المعرفة بطبيعة الأدب وإشكالياته اللسانية، لا سيّما ما صدر من تلك الإجابات في سياق الجدل النظري الثري في حقل دراسات الخطاب وتحليل النص. وفي الحقيقة، فإن السؤال المختص بماهية الأدب وجوهره إنما يقترب كثيرا من منطق الأدب المفارق للفنون الأخرى، فكانت مقاربة نظرية الأدب بالبحث في الشعرية أقرب وأنفع المحاولات للإجابة عن السؤال، بل إنها قدمت معرفة حقيقية تخص طبيعة الأدب وماهيته. ونعتقد أن الفضل الأكبر في هذا التقدم هو منطق السؤال ذاته، السؤال الذي يوجه الضوء صوب المنطقة المعتمة التي يراها معرفة تفاصيلها. 

يختلف الأمر، جذريا، كما أجادل، في حالة النقد الثقافي؛ فإجاباته مختلفة عن إجابات النقد الأدبي كما وجدنا في حالة نظريات النص، وهذا أمر طبيعي لاختلاف أسئلة النقد الثقافي. فما هي أسئلة النقد الثقافي، ومن ثم، ما هي إجاباته، وكيف ينظر للأدب؟ إن الدراسات الثقافية، شأن النقد الثقافي نفسه، تهتم بكيفية اشتغال المنتجات الثقافية، وكيفية تشكّل الهويات الفردية والجماعية، والأدب «واقعة» أو «منتج» ثقافي، وهو نشاط شامل، يدخل فيه الشعبي والرسمي، القديم والحديث. إن توصيف الأدب بصفة «الواقعة الثقافية» الشاملة هو شأن و»اشتغال» أو «مهمة» الدراسات الثقافية والنقد الثقافي على السواء. 

لكن ما المقصود بالواقعة الثقافية؟ إنها تُفيد، باختصار، أن الأدب هو أحد نصوص الثقافة في عصر ما، أو حتى ثقافة ما، أو بلد ما؛ فالأدب كما يجادل عبد العظيم السلطاني، يظل «حامل ثقافة ومعبرا عن ثقافة: نقد النقد الثقافي، ص: 13». وفي الجوهر من هذه الواقعة الثقافية ثمة احتفاء كبير بموضوع النسق الثقافي المضمر أو المخفي. وهي فكرة ليست جديدة، أقصد، هنا، موضوع النسق وما يتصل به من مفهومات في دراسة الأدب واللغة؛ إذ سبق للدراسات البنيوية، وبجوارها الدراسات اللسانية والأنثروبولوجية، أن تعلّقت بها وأفاضت ببيانها. الجديد هنا يكمن في أن النسق هو جزء أصيل من الثقافة ذاتها، وليس من النص الأدبي، أو أي نص لغوي آخر. 

أعتقد أننا قد وصلنا إلى قلب المشكلة؛ إن هذا النسق، مضمرا كان أم مخفيا، لم يعد جزءا من أدبية النص، إنما من إشكالية أخرى لا تتصل بالنص الأدبي، إنما بموضوع آخر يختص باستخدام النص، أو تداوله بين القرّاء، أو حتى بفوائده أو وظائفه، وهذا التوصيف يظل صحيحا، حتى لو أخذنا بالنقد المنهجي للنقد الثقافي، وانطلقنا من إشكالية الخطاب كما يطالب بعض المشتغلين بالنقد الثقافي. نعم، ثمة توظيف مختلف، جذريا، بين البحث في أدبية النص، أو محاولة الإجابة عن السؤال الأهم بالنسبة لنظرية الأدب، وهو ما يجعل من نص ما نصا أدبيا، وبين إشكالية أن الأدب هو «واقعة ثقافية». ولقد فاقم الأمر إن أغلب المشتغلين، عندنا، بالنقد الثقافي يعتقدون، أو ينطلقون من فرضية أن هذا النقد هو منهج آخر يستخدم في دراسة الأدب، بينما الحقيقة أن النقد الثقافي ليس منهجا بعينه، إنما هو حقل معرفي واسع. وفي عمله يستخدم مناهج نصية كثيرة. والأدهى أنه قد جرى في دراسات كثيرة اختصار النقد الثقافي بموضوع النسق الثقافي كما لو أن هذه الأنساق هي كل النقد الثقافي. 


معرفة أقل بحقيقة النص الأدبي

في النهاية نحن إزاء «مشكلة» عويصة يختصرها النقص الفادح في المعرفة المقدَّمة من قبل النقد الثقافي بالنص الأدبي؛ إذ لا يبدو أن هذا النقد مشغول بتقديم معرفة تفصيلية تُضاف إلى ما جرى إنجازه في حقول تحليل النص/ الخطاب. وقد نقول إن النقد الثقافي لا يُعنى، بالأصل، بتقديم هذه المعرفة؛ فهو مشغول بمعرفة أخرى تتعلَّق بمدى أوهام النص، أدبيا كان أم غيره. لنقل إنه ذو فكر تبشيري «خلاصي» يروِّج لـ «طروحة» فضح أيديولوجية النص المخفية، أو غير المعلنة. في النهاية، ثمة تراجع ونقص فادح في معرفتنا بالنص الأدبي، وهو موضوع اشتغالنا. وتتفاقم المشكلة عندنا، في العالم العربي، الذي يفتقر للمؤسسات الداعمة المتمثلة بالصحف والمؤسسات الثقافية الكبيرة، وفي الطليعة منها دور النشر، هذه المؤسسات، كلها، تتولى فرزا وفحصا، بل وتمييزا ثم تقييم النص الأدبي عن سواها، وتبريز الجيد والمميز في دائرة اشتغال الأدب ونصوصه. مثل هذه المؤسسات غير موجودة في عالمنا العربي، وفي أحسن الأحوال غير فاعلة، ويديرها، غالبا، أشخاص غير أكفاء، غير قادرين على الدفع بعمل هذه المؤسسات. وفي المحصلة، نحن إزاء مشكلة كبرى ذات جوانب وصياغات تبدأ بكذبة موت النقد الأدبي، ولا تنتهي بـ «توريط» الأدبي ونصوصه بما هو غير أدبي. 

وهناك مشكلة تحميل النص الأدبي «أعباءً» كبرى تختص بها مجالات وحقول معرفية كان الأدب قد تخلص منها في حقبة البنيوية، وهي تستعيد، الآن، حيويتها تحت مظلة: النقد الثقافي ومزاعمه في النقد العربي. نحن، إذاً، أمام «ردة» معرفية ثقافية تضرب الأدب وتسعى لاحتلال مساحات التأويل والتفسير المتولِّدة عنه. 

* ورقة بحثية قرأها الكاتب في مؤتمر قسم اللغة العربية بكلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلامية الجامعة.