فعل الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء

ثقافة 2022/12/28
...

 د. عبد الجبار الرفاعي

 مفهوم فعل الخير والعمل الصالح اللا مشروط يتنافى مع مفهوم فعل الخير والعمل الصالح في ضوء مقولة الولاء والبراء، إذ لا يصدق فعل الخير والعمل الصالح فيها على المختلف في المعتقد. في إطار مقولة «الولاء والبراء» لا يكون فعل الخير خيريا أو العمل الصالح صالحا بذاته، وبوصفه فعلا يسعد الإنسان المتلقي له والمبادر به، وإنما يستمد فعل الخير قيمته من كونه متصفا بالخيرية بحسب المعايير والحدود المرسومة في مقولة «الولاء والبراء»، وهذه الصفة لا تتحقق إلا عندما يكون ذلك الفعل من أجل المشتركين في العقيدة، فيكتسب قيمته الخيرية وصلاحه من حكم العقيدة بأنه فعل خير وعمل صالحٌ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الحكمُ مطابقا في كل الحالات لحكم العقل الأخلاقي «العقل العملي»، لأن أحكام العقل الأخلاقي لا تقبل التقييد بهوية اعتقادية أو سواها من الهويات القومية وغيرها.

 أحكامُ العقل الأخلاقي لا تقبل التقييد، فالكذبُ قبيحٌ والصدقُ حَسَنٌ مع كل الناس، والظلمُ قبيحٌ والعدل حَسَنٌ مع كل الناس، والأمانةُ حَسَنةٌ والخيانة قبيحةٌ مع كل الناس، بغض النظر عن معتقداهم الدينيّة وهوياتهم المجتمعيّة وغيرها.  

 عندما يشدّدُ من يتبنى «الولاء والبراء» على أن أيَّ فعلِ خيرٍ وعملٍ صالح يجب أن يكون لله، ولا يُشرك به أحدًا من الخلق، يريد بذلك أنّ كلَّ فعل لا يتصف بالخيريّة إلا إن كانت تنطبق عليه المعايير والقيود والشروط المنصوص عليها في العقيدة كما يفهمها ويفسّرها هو، وهي تعني ألا يفعل فعلًا من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا، بل يفعله لمن ينتمي إلى معتقده خاصة (1). وإن كان المقصودُ هو الإنسان في بعض الحالات فإنّه مقصودٌ لسبب ما، وليس لكونه إنسانًا فقط، وهو ما تحيلُ إليه الرؤية التوحيديّة السلفيّة الذي تتفرع عنها مقولةُ «الولاء والبراء». لذلك لا يبادر مَنْ يعتنقون هذا المعتقدَ إلى فعل الخير للناس من دون نظر لعقيدتهم، يختصّ فعلُ الخير لمن يشترك معهم في المعتقد دون سواه، بمعنى أن التديّنَ الذي يبتني على هذه الرؤية يرى أن الصلةَ بالله لا تتحقّق إلا من خلال ميثاقٍ خاص للاعتقاد، وما يرسمه هذا الميثاق من حدود تفصيليّة دقيقة لمعتقداتِ المتديّن وسلوكِه. الميثاقُ يتضمن مقولاتٍ اعتقاديةً تمنع فعلَ الخير لمن يعتقد بمعتقد آخر في بعض الحالات، وترسم بوصلةً ترشد لخارطة الخيرية التي حدودها أهل المعتقد، داخل هذه الحدود تكون للفعل قيمة دينيّة تجعله مصداقًا لعنوان كونه خيريًا وصالحًا.

  إنّ مقولة «الولاء والبراء» وغيرَها من مقولات اعتقادية ترسم حدودًا صارمةً لفعل الخير الذي الذي ترى أنّه يُرضى الله، وهو كلُّ فعلٍ مشروعٍ بالمعنى الذي تضع حدودَه مدوّنة الاعتقاد، وكلُّ ما لا يرضى اللهُ عنه على وفق هذا المعنى لا يكون مصداقًا لفعل الخير. وعلى هذا لا يكون الإنسانُ الذي ينطبق عليه عنوانُ ديني أو مذهبي آخر موضوعًا لفعل الخير والعمل الصالح. ولا ينظر إليه من أجل كونه شريكًا في الإنسانية أو محتاجًا لفعل الخير، لأنّ مثلَ هذا الفعل ليس مطلوبًا لله من منظور أكثر متكلمي الفرق.     إنّ العملَ الخيري لأجل الإنسانِ بما هو إنسان ليس مصداقًا لفعل الخير لدى أتباع مَنْ يحرّم حتى المبادرةَ بتهنئة مَنْ ينتمي لدين آخر في أعياده، ويحرّم تحيتَه والسلامَ عليه. يقول ابن القيّم: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصّة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب... وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك»(2)، بل يحرّم بعضُهم أكلَ ذبيحة مَنْ لا يصلي، ودعوته لأيّة مناسبة، ويفرض مقاطعةً شاملةً عليه. فقد «سئل الشيخ ابن عثيمين، عن حكم السلام على غير المسلمين؟ فأجاب بقوله، البدء بالسلام على غير المسلمين محرّم ولا يجوز»(3)، «البدء بالسلام على غير المسلمين محرّم ولا يجوز»(4). و»سئل الشيخ عبد العزيز بن باز، عن حكم جواز الأكل من ذبائح تارك الصلاة عمدًا الذي لا يصلي لا تؤكل ذبيحته. هذا هو الصواب... إن الذي لا يصلي لا دين له، ولا تؤكل ذبيحته... فلا تؤكل ذبيحته، ولا يدعى لوليمة، ولا تجاب دعوته؛ بل يهجر حتى يتوب إلى الله وحتى يصلي»(5). وقد بلغ الأمر لدى ابن تيمية أقصى مدياته عندما منعَ الإفادةَ من خبرات ومعارف غير المسلم ومنعَ تقليدَه حتى في ما فيه مصلحة للمسلم، إذ يقول: «لا تقلّدهم حتى في ما فيه مصلحة لنا، لأنّ اللهَ إما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرًا منه، وإما أن يعوضنا عنه في الآخرة»(6). وهذا يعني مقاطعةَ المسلمِ للعالَم غير المسلم كلِّه، وذلك متعذر، لأنّ العالَم اليوم متداخلٌ ومتفاعل ومتشابك كنسيج مترابط في تواصله وتبادله وتفاعله في مختلف مجالات الحياة، وليس بوسع مجتمع يريد أن يحضر في العالَم العيش وكأنّه في جزيرة يغلقها على نفسه. 

  تورّطت أكثرُ الأديان المعروفة بالتكفير في مرحلة من مراحل تاريخها، ولم ينفرد فيه دينٌ واحد فقط، على تباين في درجة التكفير واختلاف في أنواعه وآثاره وحدوده. التكفيرُ مأزق الأديان، التكفيرُ يُفشِّل كلَّ محاولة جادّة للحوارٍ والتعايش بين الأديان. يتنكّر أكثرُ أتباع الأديان للتكفير في أديانهم وتراثهم وتاريخهم، وينزعج كثيرون من الحديث عن التكفير لدى الفرق والمذاهب في تراثنا، وعادة ما يُتهَم مَنْ يكشف ذلك بأنّه يُشهِّر بالدين والمذهب الذي ينتمي إليه. وكأنّهم لا يعلمون أن التكفيرَ يتفشّى في مقولات علم الكلام القديم لكل الفرق. 

  تحولت مقولةُ «الولاء والبراء» بوصفها رديفة للتكفير إلى سلطة تغلغلت في ضمير المسلم المعتنق لها، بنحو كان معه ومازال المسلمُ الذي يتبناها عاجزًا عن بناء ضمير أخلاقي إنساني حرّ، يسمح له ببناء علاقات إنسانيّة إيجابيّة مع أتباع الأديان الأخرى، بل كثيرًا ما عجز المسلم المعتنِق لها عن بناء علاقات ثقة مع المسلم الذي ينتمي لمذهب آخر، لأنّ عقيدة «الولاء والبراء» تفرض عليه أن يتخذ موقفًا عدائيًّا مع الغير، وهو ما يشدّد عليه بعضُهم بقوله: «واعلم أنه لا يستقيم للمرء إسلامٌ ولو وحّد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين»(7). 

  الاقتصارُ على إيراد الأقوال والفتاوى السلفيّة هذه لا يعني شذوذَها ولا أنّها الوحيدةُ التي تشدّدُ على ذلك في تراثنا، بل لأنّها ما زالت مؤثّرة وفاعلة في مواقف أكثر مَنْ يعتقد بها. الواقعُ الذي يعيشه أكثرُ المسلمين غير السلفيين فرض عليهم تجاوزَ تلك المقولات والأحكام في تعاملهم مع المختلِف في المعتقد. تفرض قوةُ الواقع منطقَها لتتغلب على حجج الذين يعاندون صيرورةَ التاريخ مهما كانت. تحدّثنا صيرورةُ التاريخ عن أنَّ مَنْ يمكث في خصومةٍ حادة مع الواقع لن يلبث طويلا في مواقفه ولن يستطيع الصمودَ في مواقعه مهما فعل، كما رأينا ذلك يتكرّر في كلّ الأديان والمعتقدات والهويات والثقافات.

  التكفير يمزق أواصرَ العيش المشترك في المجتمع، ويزجّ المجتمع الواحد في حروب مفتوحة. فضحُ أرشيف التكفير ضرورة لاستئناف حضور قيم القرآن الكريم الروحيّة والأخلاقيّة والجماليّة في حياة المسلم، وتحرير ضمير المسلم من التراث التكفيري المظلم.


الهوامش

1 -  وردت كلمة «خير» في 109 من الآيات القرآنية، وسياق أكثر الآيات فيها يشير إلى عنوان عام لفعل الخير يشمل الكل. كما جاء «العملُ الصالح» مقترنًا بالايمان في سياق يتحدث عن عنوان عام يشمل كل فعل حَسَن يفعله المؤمن لأجل الناس جميعًا.  

2 - أحكام أهل الذمة 1، 205.

3 - الولاء والبراء، 1، 18، «المكتبة الشاملة». 

4 - ابن عثيمين، فتاوى متفرقة، 13، 28، «المكتبة الشاملة». 

5 - مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 10/ 274، “المكتبة الشاملة”. 

6 - ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ص 172، “المكتبة الشاملة”.

7 - إنجاح حاجة السائل، فصل في بيان حقيقة الإسلام والشرك، ج1، ص 10، «المكتبة

 الشاملة».