لماذا غابت البرامج الثقافيَّة عن قنواتنا؟

ثقافة 2022/12/28
...

 علي لفتة سعيد


للتلفزيون سحره على المتلقي، مثلما له تأثير كبير على تغيير قناعات الرأي العام، لذا فإن الكثير من القنوات الفضائية التي تهتم بتنوع برامجها وتختار الكثير من مقدمي برامجها سواء تلك المتعلقة بالسياسة أو الفن وحتى الاجتماع والرياضة وبشكل شبه يومي على مدار خمسة أو ستة أيام في الأسبوع، بل ما من فضائيّة تخلو من برنامج عن الطبخ، مثلما تهتم الكثير منها بتقديم ما يعنى بالشعر الشعبي، لكن  الأغلب الأعم من القنوات لا تهتم بالبرامج الثقافية حتى لو كانت أسبوعية، إذا ما استثنينا القنوات الخاصة بالثقافة كما هو معمول به في فضائية النيل الثقافيّة.. فلماذا تبتعد إدارات هذه القنوات عن تقديم البرامج الثقافيّة؟ هل هناك صعوبة في إيجاد مقدمي برامج لهم «كاريزما» خاصة؟ أم أن الثقافة ليست في حساب هذه الإدارات؟ أم أن للأمر أسباباً أخرى؟

التحدي المركب

الكاتب والإعلامي ومقدم البرامج سعدون محسن ضمد، يقول: افترض بأن المقصود بالبرامج الثقافية هي البرامج التي تعالج أسئلة أقرب إلى النقاشات الفكرية، منها إلى الشأن الثقافي العام، وإلّا فإن البرامج الثقافية موجودة وشائعة، أقصد تلك التي تغطي الفعاليات الثقافية والفنية والأكاديمية على مدار الإسبوع وتستضيف أكثر من ضيف لتستعرض منجزهم الثقافي أو الفني أو الأكاديمي. 

ولا تكاد تخلو محطة فضائية من وجود برنامج من هذا القبيل.

ويشير من جهة أخرى إلى أن البرامج التي تعالج أسئلة فكرية، أو تستعرض من وجهة نظر نقدية، ملفات تحتوي على حساسيات دينية أو عقائدية أو تقاليدية، فهي تعاني من أكثر من مشكلة، ويصنفها على شكل نقاط، كما يضيف: أوّل هذه المشكلات أنها لا تستهوي جمهور المتلقّين، لأن نقاشاتها نخبوية.

وهذا ما يجعل “الاستثمار فيها” غير مجدٍ بالنسبة لمالكي القنوات الفضائية أو المسؤولين عنها. 

من جهة ثانية فإن هذه البرامج كثيراً ما تُسبب مشكلات بالنسبة للقنوات ولمقدميها، وخاصة عندما تتناول قضايا حساسة، سواء كانت دينية أو تقاليدية، أو آيديولوجية. 

وهذا يعني أنها ستكون بالمواجهة دائما مع شريحة معترضة أو حانقة.

وعن النقطة الثالثة يقول ضمد إن هذه البرامج تحتاج إلى إعلاميين من نمطٍ خاص، يكونون قادرين على إدارة الحوار متعدّد الأبعاد وكثير التشعبات، ويتميّز بشريحة ضيوف من الصعب إدارة الحوارات معهم، لأن هذه الحوارات يجب أن تتأسّس على إطلاع واسع بأفكار هؤلاء الضيوف وبتأثيراتها وانعكاساتها.

ويؤكد: إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هؤلاء الضيوف ينتمون إلى مدارس فكرية مختلفة ومن تخصصات متباينة، يتجلّى لنا صعوبة الاستمرار بهذه البرامج لصعوبة التحضير لها وإدارتها، ثم النجاح فيها. 

وهو ما يجعله يجد أن التحدي مركّب أمام القنوان وأمام مقدمي البرامج بالنسبة لهذه النوعية من البرامج، فهي من جهة مكلفة ومتعبة، ومن جهة أخرى تتسبب بمشاكل كثيرة، ثم هي لا تستهوي شريحة واسعة من المشاهدين والمهتمين.


تراجع الوعي

لكن الكاتب ومقدم البرامج في قناة النيل الثقافية المصرية خالد منصور يرى الامر من زاويةٍ أخرى فيقول، إذا أمسكت بجهاز التحكم عن بعد (الريموت كنترول) وأخذت تتجوّل عبر القنوات التلفزيونية ربما ستجد الكثير من قنوات الطبخ والقنوات الرياضية.. قنوات أفلام سينمائية تعيد قائمة معروفة من الأفلام كما هو الحال في الفضائيات التي تعرض المسلسلات التلفزيونية.

فنسأل نحن المغرمين والمهمومين بالشأن الثقافي أين البرامج التي تغطي هذا النشاط الثقافي الكبير والمتنوع من مسرح وفن تشكيلي وإصدارات أدبية وفكرية؟ وأين صوت المثقفين والمفكّرين صوت التنوير بوصلة طريق المستقبل؟ ويجيب منصور أنه “على مرّ السنوات تم رسم صورة نمطية للمثقف والحياة الثقافية، بل حتى من يحب الثقافة بتعدّد دروبها. 

ربما انعكست هذه الصورة على نوع من الجمود في برامجنا الثقافية تزامن مع تراجع الوعي الذي يستطيع التفرقة بين الذهب والصفيح لدى

الجمهور”. 

ولهذا يرى أنه في زمن التريند والترافيك والشهرة السريعة عبر الاستقباح تصبح البرامج الثقافية بشكل خاص والبرامج الجادة بشكل عام والإعلام التقليدي عامة أمام تحديات لجذب الجمهور وترغيبه في تذوق الجمال الحقيقي.

ويعتقد أن هذا لا يكون إلّا بتضافر مختلف المؤسسات خاصة المدرسة أولى خطوات بناء الوعي وضرورة العمل خارج الصورة الجامدة للحوار التلفزيوني مع عمل خطط إنتاجية وتسويقية للبرامج الثقافية. 

ويؤكد أنه لا أؤمن بمقولة “الجمهور عايز كده” وإنما يؤمن بقدرة صانع القرار بالسمو بجمهوره عبر تنبيهه إلى الجميل.

ويوضح أن الثقافة ليست مصطلحات معقدة ولا أشكال غير قابلة للفهم.


الثقافة حياة

ولهذا يدعو منصور الى أن نبيّن للناس أن حياتهم هي تعبير عن الهوية الثقافية لهم وندعوهم إلى المزيد من الفهم والفكر والخيال والجمال.

ويرى من جهة أخرى أن القنوات التلفزيونية لا تهتم بالثقافة بل إن المساحات المخصصة للثقافة بالصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية أولى ما يتم الجور عليها في حالة حدوث أي ظرف.

اعتقد أن على صناع القرار إدراك أهمية الإعلام الثقافي والثقافة بشكل أعم، ولهذا يطالب صناع الإعلام الثقافي بضرورة إعادة النظر في طرق تقديمها للثقافة لتكون قادرة على مد الجسور بينها وبين الجمهور لتضيق الفجوة شيئا فشيئا.


جسور وتجهّم وشفرات

لكن مقدمة البرامج والكاتبة والناقدة التونسية هيام الفرشيشي  لها رأي قد يبدو مخالفا وجاء عن تجربة، فتقول: لو تحدثنا عن الثقافة في التلفزة فإننا سنهتم خاصة بالجانب المرئي في هذا الوسيط الإعلامي الذي سيأخذ بعين الاعتبار اللون والشكل وحضور الصورة، وأن يكون هناك تحفيز لعين المشاهد المرتبطة ذهنيا بصور نمطية، وخياله وما يتناسب مع إدراكه. 

بحيث يميل المشاهد إلى كلّ ما يغذّي رغبته للتطهر من همومه من خلال الدراما التي تستدر دموعه وتثير عواطفه، أو الكوميديا التي تجعله يبتهج، أو الكرة التي تفوقّت على الأسطورة، أو برامج الطبخ لأنها مرتبطة بإدراكه الحسّي الشرطي، هذا إلى جانب المحتوى الذي يجب أن يصل إلى المتلقي بكل سلاسة وتبسيط. 

وترى أنه حين تقدّم برنامجًا ثقافيًا في التلفزة فأنت تأخذ بعين الاعتبار علاقة المشاهد بالتلفزة، ومدى ارتباطه بالثقافة خاصة إن كانت نخبوية جدا أو تخدم توجها أيديولوجيا أو اختيار مثقفين ومبدعين في هيئات منفرة، قد تجعلهم لا يتابعون هذه البرامج لأنها قد تعني متابعين بعينهم قادرين على تفكيك الشفرات اللغوية والفكرية لهؤلاء الضيوف، “لهذا خصصت قنوات تلفزية وإذاعية للثقافة والمثقفين وجمهورها قليل مقارنة بالقنوات الأخرى، وأن خصّصت بعض البرامج الثقافية في بعض التلفزات تضطر إدارة التلفزة إلى بثها آخر الليل، خاصة وأن صاحب البرنامج يأتي بوجه جاد حازم وأحيانا متجهم ويتحدّث عن مواضيع بعيدة عن اهتمام السواد الأعظم من الجمهور الذين تربطهم بالتلفاز علاقة حلم وتخييل وإفراغ الهموم والبحث عن أشخاص يشبهونه وعن مواضيع من واقعه المعاش، حتى وإن كانت خصومات وقضايا اجتماعية”، وفقاً لتعبيرها. 

ولهذا تعتقد الفرشيشي أن نجاح هذه البرامج يكمن في البحث عن صيغ عرض وتقديم تختلف عن الصور السائدة الثقافة ولمنتجيها، من خلال إيجاد جسور التواصل والحوار مع المشاهد أو التأثير على ذوقه من خلال الاشتغال على العناصر التي تجذبه وتطور حياته وتجعله عنصرا مهما في العملية التفاعلية والخروج من الاستوديوهات والتنقل مع المثقف/ المبدع في الامكنة الطبيعية والتاريخية والاعتماد على عنصر الحكي، بحيث تكون الصور المقدمة بمثابة إبداع رمزي يتنافذ مع ذات المتلقي ويرغبه في الإقبال على عوالم الثقافة. 

وترى الفرشيشي أن قضية التعامل مع المشاهد بعلوية من خلال تلك النقاشات النخبوية التي انتقلت من الفضاءات الجامعية والثقافية الى التلفزة وأرى أنها ستفشل وسيقل متابعوها إن قدمت بتلك الطرق البالية.


العادات وصناعة الوعي

الشاعر والناقد والاعلامي المغربي عبداللطيف الوراري يشير من جهته إلى ألا أحدٌ ينكر ما أصبح يقوم به الإعلام من أدوار طليعية داخل فضائنا المعاصر في التنشئة والتثقيف والتغيير المجتمعي، وذلك بالنظر إلى حصته الجماهيرية التي يحوزها دائماً لصالحه، وكم يضيع من الجهد والوقت والإمكانات عندما يُوجّه الإعلام إلى غير هذه الأدوار من خلال برامج تسطيحية ومكرورة تحشد محتواها بكل شيء متاح، إلا أن يكون هذا المحتوى صانع وعي نوعي وجديد يحترم روح العصر ومتطلّباته، ويرقّي فكر المُشاهدين وذائقتهم ويغيّر رؤيتهم لنظام الأشياء. 

ولهذا يقول إنّه: ما زلت أنظر إلى تلفزيوننا العربي بخجلٍ واستحياء، الذي يغرق بنسبة كبيرة من برامجه في أخبار الدم والفرقة والشتات، وفي مسلسلات وحوارات وموادّ متفرقة لا طائل منها، فيما برامج الثقافة لا تحظى بالاهتمام نفسه، كأنّها «عدوّ» التلفزة الذي ينغص على المشاهدين راحة البال وفراغ الوقت وانعدام الحيلة. 

ويرى الوراري أن ثمة برامج ثقافية معدودة على رؤوس الأصابع نصادفها بين هذا التردّد أو ذاك، إلا أنها تُبثّ في غير أوقات الذروة؛ أي بعد أن يكون «أبطال» المسلسلات من كلّ نوع قد تعبوا وخلدوا للنوم، وتركوا للمثقفين وأشباههم فرصة أن يناجوا شوارد

الليل. 

ويشير إلى موضوعة الفهم، فيقول: أفهم الثقافة بمعناها الخاص الذي يدلّ على إنماء الوعي وتحفيزه للانخراط في المرفق العمومي، وإطلاق طاقات الابتكار والإبداع، والمشاركة السياسية، والفكر النقدي الذي يستخلص من أخطاء الماضي وحيرة الحاضر إمكانات هائلة لاستشراف المستقبل والثقة فيه.

فالعلاقة بين الإعلام والثقافة ينبغي أن تكون علاقة جدلية وطبيعية، وليست علاقة ارتياب وخوف وعداء. 

ولهذا فهو لا يشك في أن أحد أسباب تخلفنا الثقافي هو ما نراكمه من عادات مهينة لوجودنا المعاصر في ظل تَصحّر الإعلام الجماهيري ثقافيا، والتطبيع مع أنظمة وسلوكات وقيم باتت تفسح المجال تدريجيا لما هو تافه وسائد ومبتذل، وتقطع الطريق على الموهوبين والمبكرين وأصحاب الخبرات والمشاريع، مع أن المال الذي يُصرف في كل ذلك - للأسف- هو من جيوب دافعي الضرائب، وليس صرف مواقف ومصالح على هوى الإداريين تجاه السلطة التي

يمثلونها.


تجاور الإعلام والثقافة

الناقد العراقي طالب عمران المعموري يرى أن وسائل الاتصال الجماهيري مهمة جدا في مسار وحركة الأفراد والمجتمعات الثقافية من خلال ما تقدمه من البرامج التي تعنى في مجال  الآداب  والرموز الثقافية في البلد من كتاب وأدباء وشعراء.

ويطرح المعموري سؤالًا: قد يتبادر إلى ذهن الكثير من المثقفين وخاصة في مجال الثقافة الأدبية، عزوف الفضائيات عن تقديم برامج تهتم بالمثقف العراقي وما يتداول في الوسط الثقافي وما ينشر وإجراء لقاءات والتعريف بهم؟ وهو يعتقد أن هناك علاقة تجاور طبيعي بين الثقافة والإعلام بحكم ما تفرضه طبيعة الاهتمامات وميادين عملهما، لكن لا نعرف أن هذا التجاور يفترض أن يكون فيه تفاهم أو تعاون قائم على التفاعل الحي والتبادل المثمر. 

ولهذا كما يوضح أن «من المعروف أن الإعلام اليوم في بلدان العالم لا يستغني عن الثقافة كون الوظيفة التثقيفية لوسائل الإعلام من الوظائف التقليدية التي تقع في صميم عملهم كذلك تغطية الجوانب الثقافية العديدة ومهمتها ربط مكونات المجتمع  مع بعضه البعض واصبحت وسائل الإعلام جزءا لا يتجزأ من المجتمع وموجها قويا لسلوك كثير من الأفراد فلا يمكن ذلك بمعزل عن القيم الثقافية في المجتمع. 

ويرى أن الإعلام التلفزيوني في العراق شهد من بعد 2003 انعطافا كبيراً في مساره من حيث الكم والنوع في انتشار القنوات الفضائية منها ما هو عائد رسميا لهيئة الاعلام العراقي ومنها ما هو عائد لأحزاب أو كيانات أو هيئات أو شخصيات وبرغم كل هذا الكم، يقول المعموري: لو القينا نظرة فاحصة على ما يطرح من برامج على الفضائيات تدل بوضوح على وجود خلل كبير في العلاقة بينها وواقع المشهد الثقافي العراقي وضمور ومحدودية الاهتمام بالثقافة والمثقف ونتاج المبدعين المختلفة قياسا بالبرامج الاخبارية العامة التي تقدم وتبث على مدار 24 ساعة والرياضية والترفيهية والإسلامية وغيرها .

 ولهذا يتساءل..هل هذا الافتقار الجلي في واقع البرامج الثقافية في محطات التلفزة الفضائية بسبب عدم وجود مقدمين أكفاء؟

ويجيب أنه في اتحاد الأدباء الكثير من القدرات الأدبية الكبيرة بإمكانهم تغطية ذلك، أو ربما مقاطعة بعض المثقّفين لبرامج التلفزيون لاعتبارات كثيرة منها تلك السطحية التي تخرج بها البرامج الثقافية وعدم قدرة بعض المذيعين على استيعاب المواضيع المطروحة.

ولهذا فإن المعموري يأمل أن يكون برنامج اسبوعي يعرض في كل حلقة أخبار الأدباء وما ينشر ويناقش القضايا الثقافية والفكرية ويرصد إنجازاتهم ويحاور نخبة من أهل الثقافة ويعرض نتاجاتهم نقدًا وتحليلا.