خليجي 25.. قراءة في فلسفة الحدث

ثقافة 2022/12/29
...

حازم رعد
يشترط في كل عملية تغيير «نهضة تقدميَّة» تستهدف الأفضل في واقع حال أي مجتمع إنساني، وجود شيء ما على أساسه يتم انتقال الشيء من القوة إلى الفعل بلغة أرسطو، واشتراطات حضور ذلك الشيء منفتحة على الوجود الذهني أو على أرض الواقع «الخارجي» ويكون بمثابة المنطقة التي تؤسس للانطلاق والتقدم.


ولكي يتوضح ذلك ندرك أنّ التفكير بالتغيير أولى المقدمات المنهجيَّة لتلك النتيجة، فالتفكير مقدمة أساسية لكل ممارسة، وعليه ما لم يتأسس الفعل على أطر ومقدمات نظريّة يكون عرضة للفشل والوقوع في الأخطاء، وثانياً أن الكتابة والنقد والتقويم وإجراء إحصاءات وتقديم دراسات من شأنها، الانتقال بمشروع التغيير من حيز الوجود الذهني إلى الكتابي عملية مهمّة في تحقيق مقدمات نظريّة يمكن أن تسهم في بلورة الواقع المراد تحسينه من خلال التفكير في الشيء ونقده وإعادة تقييمه. 

إنَّ من اشتراطات عملية التغيير المهمّة هو جود حدث مؤسس، سواء كان ذلك الحدث حاصل احتجاجات مطلبيَّة، أو مشاركة في نشاط عملي اقتصادي واجتماعي أو سياسي أو رياضي. 

إنَّ انطلاق التغيير من حدث مؤسس، وإن كان هو الفكرة المسكوت عنها الثاوية في أغوار اللا وعي الإنساني بحسب سيغموند فرويد، في أنَّ تلك المنطقة المغلقة تماماً أشبه بصندوق يصعب النفاذ إليه، فهي بلا مفاتيح مؤثرة وقوية، ولعلَّ واحدة منها هو الأنشطة الرياضيَّة ذات الطابع الدولي هي ما يوقظ تلك الأفكار ويحرّك مكائن العقل للعمل على تنشيطها وإظهارها. فعندما نفترض مشاركة العراق في النشاطات الدوليَّة واستضافتها هو باكورة مفتاحيَّة لعملية التغيير والتنمية والتفكير بجد لغد أفضل من الراهن، نعي جيداً ما نفكّر فيه وما نحاول الدفع باتجاهه (فالوعي كفكر وممارسة يكون بشرط وجود شيء) ولا يجيء من عفو الخاطر أو من تلقاء نفسه، لأنَّ التغيير والتحديث حاصل فكرة وعمل وكلاهما مشروطان بوجود شيء «حدث» مؤسس في سقع الواقع، ويكون مثاراً للتفاعل بين الأفراد وبينهم وبين السلطة ككيان يدبّر شؤونهم، ومن خلال ذلك تحصل إمكانية مسايرة الحلول المقترحة نحو التغيير وانتاج واقع جديد يعود بالنفع والإيجابيّة على المواطن والرقعة الجغرافية التي يقطن فيها. وذلك يمكننا صياغة قاعدة تكون منطلقنا لبيان مسار حركة العقل التغييري نحو ما هو أفضل للمجتمعات على المستويات كافة. 

ولعل نحتها يكون بالشكل التالي (إن أي تغيير مرهون بشرط شيء يحدث في الواقع)، إن التفكير الفلسفي في شكل حياة أفضل على المستوى الرؤيوي والاقتصادي والسياسي «في حياة الشعوب القديمة” كان الحدث المؤسس للعقلانيّة وتجاوز حقبة التفسير والتفكير بالخرافة والأسطورة التي أترثت عقلية الإنسان ورسّبت عليها السذاجة. وكانت الثورة الفرنسيّة حدثا مؤسسا لإنهاء حقبة من الاستبداد وبداية تعميم الوعي بالحرية والتسامح وغيرها من المفاهيم، وايضاً كانت مقاومة الاحتلال الأوروبي الغربي في بلاد العرب والمسلمين بداية لتأسيس الدولة القوميّة والوطنيّة ونهضة المسلمين والعرب والتفكير بلزوم اللحاق بالحضارة الحديثة. إذن نفهم أن لكل عملية تغيير حدث مؤسس يمثل تحدياً في الواقع يتطلب استجابة من قبل السلطة والمجتمع أولها الإذعان بضرورة التفاعل الايجابي مع الحدث والعمل على تظهيره على أحسن وجه لأنّه مرتبط بشكل مباشر بحياة الناس وواقعهم وفيما يمكن أن يعود عليهم بالمنفعة والتحديث على كل المستويات. أجد العذر لأولئك المتذمرين من اقامة هكذا فعاليات ذات طابع دولي لما قد يجدون فيها من مدعاة للسخرية أو توجيه الانتقاد أو طرح ملاحظات على محطات بائسة قصرت الحكومات المتعاقبة في إنجازها أو لما يؤشرون عليه من ملاحظات على مستوى أداء البنى التحتية والمنشأة الترفيهيّة وعدم السيطرة على بعض المناطق غير المسيطر عليها أمنياً وتشهد نزاعات مستمرة، ولكن ذلك لا يمنع من اقامة هكذا فعاليات أو احتضانها لأنّها في حقيقة الأمر تؤسس لواقع أفضل وتلفت أنظار الناس إلى إمكانية التغيير، وكذلك تخلق وعياً جديداً من خلال الاحتكاك بالآخر والتماس معه والافادة من هذه الثقافة الجديدة الوافدة. إنَّ عقوداً من عزلة العراق عن المحفل الدولي والعربي الخليجي على وجه الخصوص هو ما أسهم بتراجع البلاد على مستويات عديدة أهمها التنمية والاستثمار والرياضة وإن العودة إلى هذه الحاضنة الأصيلة قد يفتح أفاقاً مغايرة للتطور واللحاق والمواءمة، وأن الناظر في ما صنعه اختيار دولة قطر الشقيقة لاستضافة مونديال كأس العالم من تغيير وإصلاح وحركة عمرانيَّة أدخلت قطر في ركب الحضارة ومنافسة كبريات القوى والدول على المستويات كافة، بل أبهرتها بحجم التقدم التقني والتنظيمي والعمراني لمجرد أن استعدت قطر لاستضافة مونديال رياضي كان هو الحدث المؤسس للتقدم والتطور، ثم لا بدَّ من الالتفات إلى أن الذي سبق ذلك هو التفكير جديَّاً بالاستضافة لهذا الحدث الذي تبلور على شكل دراسات ومقترحات قدمت من لدن فاعلين مختصّين يدركون جيداً حجم التقدم والتطور والتغيير الهائل الذي سيعود عليهم فيما لو تمكنوا من قبول الاستضافة وتمَّ الحدث. إنَّ الناظر للحدث من زاوية فلسفيَّة وفكريَّة متجرّدة يمكن أن يلحظ ذلك من دون أدنى شك أو ريب، فإنَّ ما حصل في أي من الدول المتطورة أنّها قامت على أنقاض “أفكار وكتابات وأحداث” أسست المقدمات المعرفيّة والمنهجيّة أفضت بالنهاية لتلك النتائج المهمة، وعند ملاحظتها قبل ذلك تجدها تقبع في جملة من الأخطاء والنقوصات والمعايب ولم يمنعها ذلك من العمل على التغيير واختيار أنسب وأفضل السبل للتنمية واللحاق بركب الحضارة وإلّا فإنَّ الواقع المزري دافع ومحفّز للخلاص منه وليس استمرار التوحّل فيه، والمجتمع أي مجتمع يمتلك الإرادة والقدرة على الخلاص والتدرّج في سلّم التغيير والتطور.