هل من فلسفة لكرة القدم؟

ثقافة 2023/01/02
...

 ياسين طه حافظ


حين يكون السؤال بهذه السعة ويخص هكذا كم من البشر من أعمار مختلفة، طبقات مختلفة وثقافات مختلفة، نحتاج إلى إمعان الفكر، إلى النظر بجديّة أكثر إلى هذه الظاهرة. 

لنشهد مجريات اللعب، ومدى البراءة فيه أو ماذا وراءه من مقاصد. فلا يعقل أن مسألة عالميَّة بهذه السعة هي لعبة فقط. 

ثمة نقاط منها «الاحترافيَّة»، أي أن اللاعب يؤدي «اللعب» لقاء أجر. بعضهم أو كلهم، ليس مهماً. المهم وجود من يُستَأجر. ثانياً تدخّل الدولة في التأسيس والاختيار أو الرعاية. مؤسسات رياضية تابعة للدولة تقوم بذلك. لا بأس لا يُغيّر هذا من الموضوع شيئاً ما دامت هناك منتخبات أو فرق تنتمي لنوادٍ أهليَّة وهذه النوادي يمتلكها أحياناً أثرياء ومتنفذون.. 

أولا، لماذا دخلت الدولة في اللعب سواء في رعاية اللعبة ولاعبيها أو في التنافس على استضافتها؟ سبب ذلك «إعلامي»، انتماء الفريق لها يعني أنّها دولة تهتم بـ وترعى الحركة الرياضيَّة وإذا كان الفريق جيداً فهو يشير إلى «جودة» في مستوى تقدّم تلك الدولة. والفريق فريق «وطني»، يعني تقدماً حضارياً يضيف لدولة الفريق ثناءَ وتقديرَ جماهير واسعة في العالم. حتى الدكتاتوريون، الذين تكرههم شعوبهم، يكرّمون اللاعبين «مادياً» ويحيونهم فرحين. لماذا؟ لأنَّ عملهم عمل رياضي، أي غير سياسي وليس ضدهم في شيء وأنهم جاؤوا بفوز. يمكن أن تفيد الدولة إعلامياً من فريقها. هو جانب واحد من المسألة رأينا المرور به قبل أن ندخل في محاولة لتلمّس جوهر كرة القدم، بفلسفتها. هل لكرة القدم فلسفة؟ 

نعم، يمكن أن نجد لها تفسيراً فلسفيَّاً، أن يكون حديثنا فكريَّاً عنها: فريقان وقواعد «لعب» وبين الفريقين محكِّم. أول ما يوحي به ذلك هو المبارزة: خصمان ومحكِّم يرعى قواعد المواجهة. وكلٌّ من المتبارزين يريد أن ينتصر على الآخر. الاختلاف في التفاصيل، في المظهر، واحدٌ هو الجوهر. التنافس على الغَلَبة. 

يبدو الإنسان في تحضره لم يستطع التخلص تماماً من روح «الانتصار على»، فأبقى التضاد والرغبة في الانتصار ووفر سفك الدم أو الافتراس أو التهجير.

هي خصومة وتغلّب على الآخر. هي رغبة لتحقيق هدف وعقبة من دون ذلك الهدف يجب التغلّب عليها. فريقان باتجاهين متقاطعين. كلٌّ يريد الوصول والتسديد في هدف الآخر، شبكته أو بيته، أو منطقته. مضمون الخصومة والضد ما يزال حاضراً. 

لكن هناك جانباً مهماً، هو أننا بإزاء تقدم أخلاقي. هنا الانتصار أقرب للمعنى. أكتسب رمزيةً. وهو تقدم «رياضي»، بمعنى التفوق البدني، التفوق في المهارات والاتقان في الحركة والذكاء في التخلص والتسديد. هي مناورة العقبة لتجاوزها. 

هنا نكون نجونا من العبثيَّة السائبة للكرة إلى فن توجيه حركة «الكرة» ضمن شبكة المعرقلات، وضمن خارطة مرسومة الحدود. حركة خلاص داخل اشتباك، لعبة أو حياة، والمطلوب تأكيد الجدارة بالنجاح أو بالتغلب على الاشكالات وبالتمكن منه. معنى هذا التغلب على اشكالات، لا الكرة وحدها، ولكن اشكالات العيش والعمل وأي مواجهة، أو تورط، أو سعي باتجاه الهدف، أو الحاجة، أو الأمنية. 

نحن في «كرة القدم» تخلصنا من البدائية وعدوانيتها إنحزنا إلى الحضاري الممتع والمثير. فهنا المتفرجون، أو ناس اللاعبين وجماهيرهم، يحتفون بالحركة الجيدة والانجاز المهاراتي لأي من المتنافسين. وحين يبلغ التهذيب المدني فيها أوَجَه، أو حين تسمو الروح الرياضية، يصفقون للجيد من الطرفين. في هذا مزيد من الابعاد للروح العدواني السالف. 

هي نقلة تحضرية. نقلة مفرحة في نقاوة الاخلاق المدنية. هنا المباراة للجميع والنتيجة، لولا بقية إرث، هي عموماً للجميع. كل فعل جيد يُشاد به أظن أن في كرة القدم درسا تهذيبياً في أن نحب التسديد الجيد للهدف، في النجاح للوصول، في ان نحب ونحيي «الصواب» و «الاتقان». أيضاً الفريقان المتباريان يخصانني ويخصان سواي. لي قربى وله مع جميع اللاعبين. وفرحي لإجادة التنفيذ أو النجاح في الوصول.

من ايجابيات هذه اللعبة أيضاً، كسر الأنانيَّة الفرديَّة واحتكار الجدوى. فصناعة الهدف يتم التعاون عليها. كل هدف وراءه حركة ومهارات الفريق. اللاعب الذي يستأثر بالكرة ليحقق مجداً فردياً أو تميزاً عن رفاقه ليسحب الفوز لنفسه أو لجدارته، تتضح سوءة هذا العمل حين تفشل المحاولة ويضيع الهدف وهو أيضاً غير مرغوب به في اثناء اللعب. 

أما ان يتصافح الفريقان بعد انتهاء اللعبة، وإن بأسف أحدهما لعدم الفوز، فهو عمل يؤكد الانتماء للعبة ولجمال الحركة ولذكاء الأداء. لمثل هذا أثر أخلاقي حسن ووقع جميل. هو يقرّب اللعبة من أن تكون فناً!

بقي ان نخشى على اللعبة مثلما نخشى على الفن، من التجارة أن تبسط هيمنتها او تأثيرها النفعي على نقاء اللعبة على جمال هذا الفن الرياضي. فنحن ندرك الجانب السيئ لشراء اللاعبين وسحبهم أو إغرائهم، بالانتقال من منتخباتهم او فرقهم والمزايدة في دفع الأجور، أو ثمن الشراء.. هم هنا يريدون اللاعب الرياضي مثل حصان السباق. ثمة ملمح «غير رياضي» في هذا السلوك والافراط فيه. لقد صار ظاهرة مألوفة في النوادي ومنتخباتها وقد نجد له عذرا، ولكنه عذر .. 

ليكن خاتمة لكلامي قولي: إني فكرت في الأسباب التي تدفع الناس بهذه الأعداد والأعمار والمهن والثقافات، بهذه الملايين في العالم، الى الاهتمام، الى متابعة هذه اللعبة، وبالحماسات الساخنة والفرح العظيم لإصابات الأهداف.. فكرت في هذا ورأيي هو أن لكل إنسان هدفاً لم يحققه وأمنية لن يصل اليها كل فرد، بلا استثناء، له ما لم يتحقق بعد ويريد تحقيقه، يريد تجاوز العقبات دونه وتحقيقه، أو يتمنى ذلك. 

كرة القدم الجميلة والممتعة بديل جيد. وكلٌّ يجد سعادةً في التغلب على العائق، على الاعتراض والوصول الى الهدف. كرة القدم توصل المتفرجين، توصل المشاهدين إلى «أهدافهم». تحقق لهم أهدافاً ما استطاعوا ولم يستطيعوا حتى الان تحقيقها. هم مع اللاعبين يحاولون تحقيقها. فمثلما هي لعبة «جماعية» هي «لعبة» فردية

أيضا.