تمسّك بجناح الفراشة.. وعي حاجات الشعر

ثقافة 2023/01/04
...

 ريسان الخزعلي


( 1 )

طالعتُ مجموعتين شعريتين للشاعر حمدان طاهر، هما: ما يُضيئه الظلام ويُطفئه الضوء، وتمسّك بجناح الفراشة، إذ لم يسبق لي أن أُطالع غيرهما سوى قصائد منشورة هنا وهناك أو على منصّة «الفيس بوك». والمجموعتان تعتمدان شكل قصيدة النثر بنمط لا يلتقي كثيراً مع أنماطها المعروفة بالاسترسال الذهني والتشاغل السردي والتصوير التجريدي، ومنها (النصّ المفتوح) الذي تتسلل إليه أجناس الكتابة الأخرى بدراية معرفيَّة أو حالة لا شعور تُمليها مؤثرات تراكمت في خزين الذاكرة. إنَّ المجموعة الثانية رسّخت فنيّاً ما جاءت به المجموعة الأولى أسلوباً وبناءً وفهماً للشعر وفكرة الشعر وحاجات الشعر، وبذلك شكّلت تصعيداً بيانيّاً في خط نمو وتطوّر الشاعر، من هنا فهي تستوقف القراءة بالأسبقيَّة.

( 2 )

في مجموعة (تمسّك بجناح الفراشة) نواجه شاعراً يكتب بحسيّة لا يلفحها التجريد والاستطراد، شاعراً يُداهمه الواقع بوقائعه الصادمة وتعارضاته الوجوديَّة، وهو الآخر يُداهم هذا الواقع شعراً ليكشف عن التعارض أو التطابق بوعيٍّ شعري مقتطفاً سريّة  الاختفاء والوضوح فيه:

كل يومٍ أخرجُ إلى الشارع

واضعاً يدي في جيبي

تلك عادة تعلّمتُها من جندي قتيل

كانت يدهُ الأولى مرفوعة كرايةٍ منتصرة

فيما كانت الأخرى مخبّأةً في جيبه..،

لعلّهُ يحتفظ برسائل حبيبته بعيداً عن العيون...

إنَّ الشاعر في تشكيل قصائده يعتمد التركيز والوضوح: وضوح الفكرة، وضوح الصورة، وضوح المعنى، كما أنّهُ يعتمد الجملة القصيرة أو متوسطة الطول. وبفعل التركيز تجيء القصائد مختزلَة قصيرة خالية من كل ما يجعلها ذاهبة إلى الترهّل والإفاضة. إنّه يقرَب الشعر بحذر العارف بسرّيته ومنطقة إقامته. وبعيداً عن التهكّم والسخرية الشائعة في قصائد الشاعر محمد الماغوط النثريَّة، فإنَّ قصائد الشاعر حمدان طاهر هي الأقرب شكلاً إلى شكل قصيدة الماغوط النثريَّة، ومثل هذه المقاربة لا تضع الشاعر في دائرة التأثّر الفني الخاضع لنمط الماغوط، كون التأثر يمكن الإشارة إليه بملامح أبعد من الشكل، وهذا لا يتوافر في شعره:

أنا ظلُّ الكلمات التي قالها إخوتي الشعراء. 

حزنهم، ضحكاتهم، وخطاهم المستعجلة.

لا أشعرَ بجسدي

حتى لو سمعتُ مَن ينادي عليَّ.

صعدتُ مع رحيلهم

وهبطتُ على هيئة ساقيةٍ

مجرد ساقية لا يشرب منها أحد

ولا تنبت قربها شجرة،

لا أسماك فيها ولا عشب.

سمعتُ نداءَ امرأةٍ وحيدةٍ

وعدتُ كلمةً في فمِ شاعرٍ ميتٍ... (قصيدة ظل الكلمات). إنَّ هذه القصيدة - ومثيلاتها-  لو كُتبت بطريقة أفقية لكانت الأقرب شكلاً إلى قصيدة النثر بأنموذجها الاجتراحي الأوّل، عالمياً وعربياً. لكنَّ (الشكلية/ العموديَّة) رسوخُ شعريتنا العربيَّة الذي منحها التفرّد، لا تُفارق وعينا الشعري/ الشكلي، ومثل هذا التوصيف ينطبق على الكثير من قصائد النثر العراقية.

( 3 )

موضوعات الشاعر في هذه المجموعة متنوّعة، مما يُبعدها عن الملل الذي يوجدهُ التشابه، وبذلك امتلكت القصائد خصوصيتها في التنوّع، وما كان لهذا التنوّع أن يحصل لو لم يكن الشاعر مدركاً لفكرة الشعر وحاجات الشعر، ومديات الشعر التي تتسع لأكثر من طيران، حتى وإن تمسّكَ بجناح فراشة:

عرفتُ باطنَ الأشياءِ المضيء

فتركتُ عادةَ الكلام

تمسّكتُ بجناحِ فراشةٍ وطرتُ.