سيلفيا بلاث: تأمُّلات في إرثِها

ثقافة 2023/01/04
...

  ترجمة: ملاك أشرف

وبخت سيلفيا بلاث نفسها طوال حياتها الكتابيّة؛ لعدم تمكنها من كتابة رواية ومع هذا كتبت واحدة متلألئة، الناقوس الزجاجيّ، سيرة ذاتيّة وسرد لامرأة شابة في خمسينات القرن الماضيّ، تتعلق تحديدا بالاكتئاب، الانتحار، والتحرّر الجنسيّ للأناث، كنت أنجذبُ بلا هوادة إلى أعمال النساء، اللواتي كابدن الانهيار العصبيّ التام والمطلق، يمكنني أن أتصور الضغوط والمشقة، التي أثقلت سيلفيا بلاث (تربية طفل، محنة زوجيّة، برد لندن القاسي).

 لكن عملها كانَ لهُ تأثيرٌ طبيعيٌّ على حياتي العاطفيّة فضلًا عن استعمالِها للُغةٍ في شِعرها ونثرِها، ذات إيقاعٍ غاضب، يبعثُ مشاعرَ مُتقلِّبة مُتغيّرة في عددٍ لا يُحصى من كلماتٍ مُبرِّحة، ترنُّ في رأسي بينما أنا أسيرُ إلى الفصل الدّراسي أو أثناء انجرافي في الرّابعةِ صباحًا.

أتساءلُ ما إذا كانت بلاث ستنجو لو أنها ولدت في زمنٍ مُغايرٍ ووقتٍ مُختلفٍ، في وقتٍ لا يكون فيهِ زيارة الإخصائيّ النفسيّ أكثر خجلًا وعارًا من مُصففِ الشَّعر، والنّساء حينها يكتبنَّ مقالاتٍ شخصيَّةٍ مشهورة احتفاءً؛ جراء الأمومة السّيئة، العوائق، قصّات الشَّعر، واسترداد كلمة قبيحة وقحة.

هل ستكون فتاةً مُشاكسة، تكتنفُ جماليَّة النّسويّة الحاقدة؟ مُدمنة على دواءِ الزّاناكس؟ مدوّنة في المُستندات؟ هل ستكون مثلي، قد وجدت مقهًى وبيئةً مُريحةً على الإنترنت أو طريقة للتواصلِ مع الأشخاص الّذين فهموا جمالياتها وتحققوا من صحةِ تجربتِها؟

هل ستصبحُ أقل وثوقًا واتّكالًا على إعجابات المُتابعين والنقّاد، وأكثر إدراكًا بالتّأثير الإيجابيّ لكتابِها على النّفوسِ المُتشظية والفتيات مع الصّرخاتِ القصيرة في كُلَّ مكان؟

أم هذا النّوع من الاتّصالِ والوصولِ غير المُقيد والأخطاء السلبيّة ستفضي بِها إلى الجنونِ أكثر؟

سألتُ مُتابعيني على تويتر فالعديد منهم من النّساء، اللّواتي يملكنَ تاريخًا مُضطربًا وقدرةً على التّحدّثِ ببلاغةٍ وتمكّن وحتّى بشكلٍ هزلي حولَ هذا الموضوع (مؤلفاتها لا سيّما النّاقوس الزّجاجيّ) وما يعنيه لهنَّ.

"سقطت جميع الصّفحات خارج نسختي، الكتاب -حرفيًا- فقدَ الأمل وتخلّى عن نفسهِ".

قالت واحدةٌ أُخرى: "هذهِ المُفارقة لا تضيعُ عليَّ".

"قرأتهُ حقًّا قبلَ سنةِ التّخرج، أحبّبتهُ كثيرًا وظنّنتُ أنّني سأصابُ بالجنونِ أيضًا. استلقيتُ في السّريرِ لمُدَّةِ ثلاث أيَّام للتأكد". كانَ ردّي بسيطًا: "جعلني أشعرُ بوحدةٍ أقلّ". لأنَّ هذا ما جعلني أشعرُ وهذا ما أظنّهُ فنًّا، سيلفيا مُماثلة لنا تمامًا، فقط ليسَ لديها النّاقوس.

لَمْ يكن اليأس في الكتابِ مثل أيّ شيءٍ آخرَ أتذكّرُ أنّني شعرتُ بهِ وتقمّصتهُ. عندما أفكّرُ في سيلفيا بلاث أكون في رهبةٍ من ذكائِها، لُغتِها، عبقريتِها، موسيقاها المُنسجمة، موهبتها المحضة، وما كانت عليهِ قيادتُها.

تبدو لي مُعاناة هؤلاء الّذين يأخذونَ بأنفسهم نحوَ الموتِ مُستعصيةً على التّصويرِ بالنّسبةِ للبعض، فكرة مُؤلمة ومُرعبة. كانَ تَوَجُّعهم النفسيّ أسوأ من أيّ أمرٍ قد أختبرهُ المرء بنفسهِ. قصّةٌ أُخرى عن سيلفيا أعلمُ بِها من إحداهنَّ وهي: أتذكرُ جارتي المُجاورة لباب شقتي عندما كنتُ أبلغُ من العُمرِ 31 عامًا، ورُبَّما كانَ أطفالي في الثّانية والخامسة سنًّا، حينها قالت شيئًا ما مثل: "آن سيكستون ماتت، لقد فعلت ذلكَ أيضًا". بدت لنا الأرضيَّة وكأنَّها تسقطُ من تحتِنا، واستمرَّت في الهبوطِ والهبوط، وقفنا آنذاك ننظرُ إلى بعضنا بعضًا. يمكن أن تغدو بلاث وغيرها أشدّ موهبةً وسطوعًا، لكنَّ جيلا خاطئا، دواء خاطئ.

كانت أوائل السّتينات وقتًا شَاقًّا عصيبًا على النّساءِ وأشقّ وأصعب على المرأةِ الطّموحة اللّماحة، الكآبةُ في هذهِ الأيَّام أصبحت مادّةً للثرثرةِ بعدَ حفلةِ العشاء، أمّا بلاث اكتشفتها باعتبارِها حالةً من دونِ درايةٍ واضحة منها بكونِها حالة، والّتي شاركها الآخرون بلا مُفرداتٍ علاجيَّة يقينيَّة ودواء بروزاك، والآن بعدَ أن نعتبرَها تشخيصًا أساسيًا، أعني تشخيصًا مُخزيًّا، بالكاد نعالجهُ يوميًّا بالمُسكنات والمُخدرات -أقصدُ المُهدئات طبعًا- نحنُ فقدنا إِحسَاسًا أوّليًّا خامًا بمدى فظاعةِ وشناعةِ وقتامة الحقيقة، كتاب النّاقوس الزّجاجيّ يبيّنُ الذُّعْر والمأساويّة.

الموتُ أكثر شيوعًا من الشِّعرِ، بصرفِ النّظر عن روايتِها، إذ الشِّعر هو الوحيد الّذي كنتُ أعرفهُ، يدورُ حولَ الأشجار، النّرجس، السّحب، أو تماثيل في أماكنٍ مُعيّنة، أو كلام عن جوٍ صحراويّ، حيث القليل من هؤلاء ظهرَ لهُ صدًى خاصٌّ في حياتي المدنيَّة، هُنا على الصّفحةِ بواسطة امرأة تُدعى بلاث، لمحتُ دراما قويَّة وعرفتُ مادّتها ولُغتها، الّتي أتضحت لي مُؤخَّرًا بعدما كانت خافتة، أمسى الشِّعرُ مكانًا حاولت بلاث من خلالِهِ توسيع صورها وعنواناتها وروحها ونفسها الدّراميّ، بلاث شاعرة في صميمِها حَتمًا.


* النّاقوس الزّجاجيّ في الأصل الإنكليزيّ (the bell jar)، وهو الجرس في التّقاليد المسيحيّة على وجهِ الخصوص.

* دواء الزّاناكس (Xanax)، من الأدويةِ المُضادة للقلقِ والخوف والاضطراب.

* دواء بروزاك (Prozac)، هو من الأدويةِ المُستخدمة كمضادٍ للاكتئاب وقيل إنّهُ الأكثرُ فاعليَّة في التّخفيفِ من حدّتهِ.

* النصّ الأصلي يختلفُ عن هذهِ التّرجمة نوعًا ما؛ والسّبب في ذلكَ يعود إلى إعادةِ صياغتِها وكتابتِها بحُلّةٍ مُبتكرةٍ وجديدة، تغدو للقارئ العربيّ سهلةً ونافعة، بعيدًا التّعقيد والآراء المُتشعِّبة، المُتداخلة في بعضِها بلا اختزالٍ ونفعٍ وهالةٍ بهيَّة.