زنجبار جزيرة العبيد

ثقافة 2023/01/07
...

 كامل عويد العامري

سماهاني وتعني بلغة تنزانيا (سامحني)، هي رواية السوداني عبد العزيز بركة ساكن، التي ترجمت إلى الفرنسية بعنوان (زنجبار جزيرة العبيد) تدور أحداثها في سنة 1652 زمن الاستبداد، تاريخ دخول الأساطيل العمانية وسلاطينها، من خلال القصة المفعمة بالحيوية عن الحب الممنوع بين أميرة وعبدها، يقدم المؤلف بركة ساكن حكاية مأساوية، ولكن تاريخية أيضا عن التحرر في محيط زنجبار. عند صدورها بالفرنسية 2022 بترجمة اكسافييه لوفان كتبت عنها العديد من الصحف والمجلات الفرنسية، مثل لوبوان وماريان، ولاكروا، هنا، خلاصة لما كتب.

في زنجبار، عند زاوية سوق العبيد وزاوية صائغي المجوهرات الهنود، تقف أوهورو الجميلة، الأفريقية الحرة، التي تغني وترقص على إيقاع الطبل: «بلدي هو جنة المستعمرين وجحيم مواطنيها الأصليين... .» خبيرة في السحر الأسود، هربت من كل تجار الرقيق، وغطرستها تبهر ابنة السلطان لطيفة، الأميرة العربية التي تعيش على مفترق طرق بين عالمين: عالم والدها - سلطنة عمان في حالة من الانحلال في ظل نفوذ الأوروبيين المتزايد.  - وسندس، زميلها في اللعب سابقا والذي أصبح عبدا يسهر عليها. اتخذت العلاقة بينهما ملامح رومانسية، فالفتاة الصغيرة والمخصي يلعبان على وفق القدر والإملاءات الدينيَّة ...في الوقت الذي يشتد فيه التمرد، يرى عشاق زنجبار ساحل أفريقيا الشرقي على أنه الأفق الذي يمكن أن يكون منقذا للحياة، وأرضا لجذور سندس، وأرضا للهرب والحرية بالنسبة إلى لطيفة. لكن تغيير العصر يأتي بنصيبه من المآسي، ولن تكون نهاية العبودية بمثابة ناقوس موت النفوذ الأجنبي. ألم تحذرنا أوهورو الساحرة: «بلدي جنة المستعمرين، وجحيم مواطنيها الأصليين ...».

زنجبار... الاسم وحده يجعلك تحلم: بالملاحة، والتجارة، والمغامرة، ومزيج من الثقافات التي تحيط بها الرمال البيضاء والمياه الفيروزية. في روايته الجديدة، يرسم السوداني عبد العزيز بركة ساكن صورة مختلفة تمامًا.

تصف أميرة زنجبار مجتمعًا مبنيًا بالكامل على العبودية والقسوة. ولكن حتى في خضم أكبر محنة، يوسع بعض الناس مساحات من الحرية لأنفسهم. من خلال إتقان القصص، مثل الراوية أوهورو، أو من خلال شغف الحب، مثل المخصي سندس.  بعد روايتيه مسيح دارفور والجنغو، يقدم عبد العزيز بركة ساكن مرة أخرى صوتًا فريدًا يُسمع من خلال الحرية والفكاهة اللذين يمنحان الحياة والنور لمصائر قاتمة للغاية.  تعامل شخصياته في رواياته المحتقرة والمُعذَّبة ومذبوحة دائما ما على أنهم إخوة وأخوات ثمينون.

في الصفحات الأولى من الرواية هناك ساحر يحسب العمر الحقيقي لسلطان زنجبار: إنه بعمر إبليس نفسه، عندما رفض الأمر الإلهي بالسجود أمام مخلوق الله «الإنسان».

فقد «استطاع الساحرُ ‎الملقب بهاروت تحديد‏ عمر السلطان الذي باركه الربّ مؤخرّا في 54 عامًا وشهرين وأسبوع واحد وثلاثة أيام وخمس ساعات فقط. وهذا ‎اللقب‏ التوراتي -هاروت- أطلقه عليه السّلطان سليمان بن سليم نفسه. تيمّنًا بالملّكين المشهورين في شؤون السحر وألعاب الروح؛ هاروت وماروت. أما عدد السنوات فهو مهم جدًا حسب ما يؤكّده هاروت؛ يماثل عمر إبليس عندما رفض أمر الله بالسجود لمخلوق أنشأه الربُّ من طين أخذه من مستنقع في الجنة. ذلك المخلوق الذي سُمّي آدم. وفي رواية أخرى «الإنسان».‏ بأنه «شخصيًا مخلوق من نار والإنسان أصله من طين المستنقع. وشتان ما بين العنصرين!! ولا حاجة إلى التذكير بأنّ إبليس هو الراعي الأساسي لمؤسسات السحرة على الأرض. ولاحقًا في الجحيم. وتم ذكر ذلك في كتاب الجلجلوتية الكبرى. وفي بعض النصوص الإفريقية التي وَجِدتْ في كُهوف بالهضبة الأثيوبية غير بعيد عن مدينة قُندر مكتوبة باللغة الجعيزية القديمة. أن يعيش خمس مرات أضعاف عمره الذي كتبه له الله في اللوح المحفوظ عندما كان نطفة في رحم أمه. أو كلمة في خاطر الرب. وما دام هذا السرّ محظورًا على الآخرين. فعلى السّلطان ألا يتحدث عن عمره الحقيقي وألا يكتبه. بل عليه دائما أن يخدع مواطنيه».

أنا السلطان..

أنا المالك الأوحد لهذه الجزيرة..

وأنا سلطان على كل شيء..

الأرض والنباتات والحيوانات والبحار وما عليها..

السفن والمراكب والصيد والصيادون لي.

والأنهار والذباب والبعوض وحتى النمل..

والصخور والشواطئ والصحراء والغابات لي..

العصافير لي..

إنَّ النبرة السرديَّة تميل إلى تقديم: قصص مستوحاة من الحكايات والأساطير، والخرافات، والكوميديا وإنكار الإنسانيّة التي تتشابك بين هجاء القمع وامتلاء الروي. النصف الأول من الرواية يخط حكاية خرافية متعفنة. يتابع القارئ من خلالها أميرة، ابنة السلطان، المثل الأعلى للطبقة الحاكمة من أصل عماني التي تعيش في رفاهية ومتعة، يحيط بها حشد من العبيد الذين يأتمرون بأمرها ولا يدخرون لها جهدا في خدمتها.

إنّ السخرية تسمح أحيانا برسم عالم من الذرائع والحجج الكاذبة فيه تستند الثروة الفاحشة إلى القسوة الشديدة. لجعلهم يعتقدون أنهم في مأمن من المرض ومن ثم زيادة قيمتهم السوقية، يعلّمون العبيد بعلامات الجدري الزائفة. وعندما تذهب الأميرة لشراء جوهرة جديدة، فإنّها تشتري قبل كل شيء شيئًا لإلهاء نفسها: قصة جميلة، ونظرة حول المجتمع الأوروبي الذي تجسده «دوقة بادوا» غير المحتملة. لكن، بعد أن تتخلص على نحو فظ من وهم التفاوض، تستمر في خفض السعر حتى يظل التاجر صامتًا في النهاية. هكذا تفرض ابنة السلطان سلطتها. ولكن سوف ينتقم الصائغ من العبد الذي يجلس في ركن قصي من متجره الذي يعمل في نفخ الكير، الذي يواصل العمل ويمعن النظر في سندس خادم الأميرة، ويقول في نفسه، ياله من أسير منعم مخصي، حقير! أما أنا فعبارة عن قطعة لحم سوداء كبيرة متسخة مربوطة بجنازير من الحديد..»

إنَّ الأسرى لا يمتلكون حتى أجسادهم. وهكذا أسر صائدو الرق بقيادة ثعبان بن كُليب العُماني الشاب نانو مع والده وسكان قريته، وسمي باسم سندس وسمي والده الذي كان اسمه ديبنبا، وهو أحد، أعيان قريته، باسم مطيع، وأخصي الاثنان على الفور. ويلقب الأفارقة ثعبان بن كُليب بـ «الضبع الأرقط». الذي أثار رعبًا شديدًا لدرجة أنه أصبح شبحًا، على الرغم من أنه مات في عام 1905، أي نظريًا بعد الأحداث المسرودة في الرواية (ولدت الأميرة عام 1855).

ومع ذلك، حافظ المؤلف على شيء من الغموض، وعلى طمس المعالم المرجعية التاريخية، عند تخوم الخيال. إذا كانت التواريخ الدقيقة تشير إلى سقوط سلاطين زنجبار على يد البريطانيين، فإن روايته لا تمثل وقائع تاريخه. ذلك أن بنية روايات عبد العزيز بركة ساكن تتسم بالمرونة، ولا يجمد الحبكة أبدًا، ومستعد دائمًا لاتخاذ اتجاه جديد. أميرة زنجبار هي قبل كل شيء قصة حب سندس والأميرة.

بمجرد أن ألغى الإنجليز العبودية، تحولت رائحة «خشب الصندل والقرنفل والعلكة» في الجزيرة إلى وباء قذر لأن «جامعي القمامة والنفايات تركوا كل شيء يتعفن على الفور». واقتفى العاشقان أثر الثوار في القارة. إن الرواية تعيد تأسيس التداول الممكن بين زنجبار وأفريقيا.

إذا كانت القرية التي وصل إليها سندس والأميرة تبدو أكثر إحسانًا من سلطنة العبيد، فإن التعصب اتخذ فيها أشكالًا أخرى. ولأن قبيلة سندس شتتها صيادو الرق، فإنها تعتبر ملعونة.  وسندس المخصي يتمتع بـ «روح غير مكتملة»، مثله مثل الأميرة التي خُتنت «فالمرأة ليست عضوا، بل جسد جميل».

وإذا ما حاول القرويون، استعادة ما فقدوه، فيدعون المفقود لمقابلة الرب في قاع بئر، وكما قال الأب لابنه وهو ينصحه: إنَّ «كل ما قُطع موجود عند الرب، إنّه يحتفظ به لك».

لا يوجد دين مفيد في أمارة زنجبار. والأفارقة «يستعبدون على وفق أحاديث مقدسة ...»: في حالة الهرب ينتهي الأمر بالعبد في جهنم. أما بالنسبة للمسيحيين: «هناك شعب أبيض آخر في القارة [...] كان الدين لديه يتحدث عن التسامح والمحبة والمغفرة، لكن [هم] لم يترددوا في قتل الأفارقة، إذ كان همهم الوحيد العثور على الماس والذهب والمادة اللاصقة التي تخرج من بعض الأشجار [...] كان يُطلق على هؤلاء الناس اسم البلج. نحن لا نسامح»، الاستعمار هو الشيء نفسه. عمانيو زنجبار يبررونه بالحجج نفسها التي يبررها الغربيون: إنهم متوحشون متحضرون.

أميرة زنجبار هي رواية الأجساد. أولئك الذين استشهدوا قمعا، وأولئك، حتى من مُثّل بهم، الذين أتاحوا إعادة ابتكار الحياة، أولئك الذين، بفضل السخرية التي تتسم بالعمق والخشونة، تشبه سخرية رابيلية، يوحدون الطبقات الاجتماعية، ويعودون إلى الواقع

نفسه.