البؤرةُ الشعريّةُ وبلاغةُ الإشعاع

ثقافة 2023/01/07
...

 محمد صابر عبيد

تخوض الكتابة الشعرية حتى تصل إلى مرحلة إنجاز القصيدة بصورتها النهائيّة مخاضاً عسيراً لا يعيه جل من يمارسون كتابة هذا النوع من الفن الصعب، إذ يعتقد كثير من الواهمين أن الوزن والقافية أو اللغة الإنشائية العالية أو بناء الصورة معززة بمجموعة من فنون البلاغة المعروفة كاف لإنجاز قصيدة حديثة، ونحسب أن في ذلك وهماً كبيراً سقط فيه شعراء لا حصر لهم من الأجيال الشعرية كلها.

 فما ذكرنا من عناصر تخصّ الوزن واللغة والصورة وفنون البلاغة التقليديّة ما هي سوى عناصر أوليّة لا بدّ منها، ووظيفتها المركزيّة هي احتواء التجربة الشعريّة بفضائها الداخليّ الحيويّ القائم على الخصب والثراء والغنى والفرادة والاستثناء، فثمّة أدوات لا يمكن الإشارة إليها بوضوح كما نشير إلى الأدوات التقليديّة التي يمكن حصرها بصفات خارجيّة مُعيّنة ودقيقة، ويستحيل على من يحاول أن يكون شاعراً أن يصل إلى ذلك من دونها لأنّها هي الشعر الحقيقيّ وما خلاها مجرّد مكمّلات وتفاصيل لا تصنع قصيدة في نهاية الأمر.

تقف معظم التجارب الشعريّة عند حدود الوصف الخارجيّ للأشياء وتفتقر إلى «الجوهر» الذي يمنح القصيدة شرعيّة الوجود وحساسيّة التمثّل النوعيّ للأشياء، فاللغة بإجراءاتها وممارساتها الطبيعيّة بوسعها أن تقوم بهذا الفعل الوصفيّ ورصد تجلّيات اللغة المتنوّعة على هذا الصعيد، وما يمكن عمله في حراك اللغة الطبيعيّ لا يدخل قطعاً في جوهر الممارسة الشعريّة بأيّ حال من الأحوال؛ إلا على سبيل استكمال الهيكل البنائيّ العام للقصيدة، إذ يبقى الفضاء الشعريّ الداخليّ للقصيدة بحمولته الرؤيويّة والرؤياويّة الكثيفة ذات الخزين المركّز لتفاصيل التجربة وظلالها وطبقاتها وحيثيّاتها هو جوهر الفعل الشعريّ.

تحتاج القصيدة في مقدّمة ما تحتاج إلى تشغيل الدالّ الشعريّ بأعلى طاقة إدهاش ممكنة، ففي كلّ دالّ شعريّ أكثر من طبقة لا بدَّ من الكشف عنها ومعرفة حدودها والإحساس العالي بها لإدراك الكيفيّة التي يمكن فيها استثمارها في الحدّ الأعلى، وهو ما يقود إلى تشييد الجملة الشعريّة في مرحلة لاحقة أكثر رقيّاً وعلى نحو استثنائيّ فريد لا يقبل التبديل، ومن غير هذه البداية التنويريّة تظلّ القصيدة تراوح عند حدود المنطقة الابتدائيّة من مناطق التشكيل، ويحسب القائم عليها واهماً أنّ القصيدة اكتملت وإنّ ما حصل عليه واستقرَّ بين يديه هو القصيدة.

ينهض عبور هذه الطبقة الابتدائيّة من مناطق التشكيل الشعريّ على رصد التحولات الشعريّة الداخليّة لحيوات القصيدة، ومعرفة مساراتها السريّة تحت القشرة الخارجيّة للألفاظ الظاهرة عن طريق الحفر العارف والمسؤول في أعماق الدوال ومساحاتها الخفيّة، فضلاً على العناية القصوى بالحركة الداخليّة للدوال الشعريّة وهي في طريقها نحو التشكّل والصيرورة الشعريّة المطلوبة، وبحركة كلّ دالّ منها مع الدوال القريبة منه؛ على صعيد التشارك في بناء الجملة وتصوير الامتداد العلاميّ وصولاً إلى الجذور بالعودة منها وإليها ذهاباً وإياباً حتّى استنفاد مؤونتها السيميائيّة.

إنَّ التركيز الشديد على تفعيل الأدوات الشعريّة والارتفاع بكفاءتها كي تعمل بأعلى طاقاتها الممكنة يمثّل جوهر العمل الشعريّ، ويستحيل بخلاف ذلك الوصول إلى هذا الجوهر المطلوب الذي لا بديل له إذا ما كانت العزيمة الإبداعيّة متّجهة حقيقة نحو إنجاز قصيدة، ولا بدَّ في هذا السياق من الانتباه إلى قوّة حضور الشخصيّة الشعريّة في ميدان العمل بطاقة حراكه القصوى، على النحو الذي يجعل حدود الكتابة تشتبك مع الحدود الجسديّة والروحيّة لهذه الشخصيّة بأعلى حساسيّة متاحة تؤلّف خصوصيّة الكتابة وهويّتها.

تتحرّك آليّات العمل الشعريّ في هذا المضمار نحو الحفاظ الأساسيّ على براءة الإحساس وطرافته وسذاجته داخل ماكنة الوعي والمعرفة والخبرة، وإدراك الوظيفة الشعريّة والمهمّة الشعريّة والمقصد الشعريّ بما يؤدّي إلى الاقتصاد العالي في استثمار الطاقة التعبيريّة والتشكيليّة والتصويريّة بدقّة متناهية، لا تسمح بزيادة دالّ واحد خالٍ من وظيفة واضحة في إنتاج المعنى الشعريّ النوعيّ القادر على بثّ الإشعاع داخل أضيق الأمكنة في جسد القصيدة، حيث يتفاعل الوعي مع الإحساس تفاعلاً فريداً بحضور البراءة الأولى التي شعّ فيها بريق الانطلاقة الشعريّة، وصارت تحت حماية المعرفة والشعريّة ورعايتها في مختبر شعريّ يحوّل جذوتها الطريفة الساذَجة إلى كيان شعريّ متكامل في قوّته الأدائيّة وسحر إدهاشه.

لا يمكن للقصيدة أن تبلغ مرحلة صوغها النموذجيّ المطلوب على أرفع ما يكون من دون تجسيد العلاقة بين تجربة الحياة والتجربة الأدبيّة في فضائها العامّ، والتجربة الشعريّة في فضائها الخاص، وتجربة اللغة الشعريّة في فضائها الأضيق، ولعلّ من قال في المدوّنة النقديّة العربيّة القديمة «لا يعرفُ الشعرَ إلا من دُفِعَ إلى مضايقه» يقصد ما نريد هنا حصراً، فالكتابة الشعريّة على مستوى إنجاز قصيدة لا تشبه سواها من أنواع الكتابات الإبداعيّة -بما في ذلك القريبة منها جداً-، فهي كتابة شديدة الخصوصيّة ونادرة الحدوث على الرغم من الركام الهائل الذي يقدّم باسمها في العصور كلّها، فثمّة من يستعجل البناء فيبني بيته على الأرض مباشرة ولا يدرك خطورة ما يفعل على مستقبله وحياته، وثمّة من يتأنى ويحفر أسساً كي يكون بناؤه رصيناً وقائماً على أسس متينة لا يخاف على منزله من الانهيار سريعاً، فالبؤرة الشعريّة الرصينة هي التي بوسعها أن تستأثر ببلاغة الإشعاع حتى النهاية.