مارينا تسفيتايفا.. من «ألبوم المساء» إلى الأنشوطة في تترستان

ثقافة 2023/01/07
...

 طالب عبد العزيز 

  

    إغراءُ الكتب لا يتوقفُ عند حدٍّ، ومهما امتلأت أرففُ مكتابتنا بالنادر والأهم منها، سنكون خاضعين الى رغبة الاقتناء أكثر. ومع ندرة ما نبحث عنه إلا أننا سنظلُّ نلاحقها في المعارض والمكتبات. في زيارتي الأخيرة لمعرض الكتب في بغداد عدتُ بحمل ثقيل من هناك، تباينت أهميته بين كتاب وآخر، ولعل كتاب (بعضُ حياةٍ وشعر) للشاعرة الروسية مارينا تسفيتافيا بترجمة نوفل نيوف، الصادر عن دار التكوين، بسوريا واحدٌ من كتب الشعر التي تستوقفُ القارئَ وتحرّضه على اقتنائه.

  إذا كان ثمة صورة (مثالية) للشاعر، في اهوائه وتقلباته ومواقفه من الحياة والحرية على خلاف القاعدة العامة للحياة فهذه مارينا تسفيتايفا (1892 - 1941) الروسية، الموسكوفية، الاستثنائية، التي كتبت الشعر بعمر مبكر جداً، وأصدرت كتابها الشعري الاول (البوم المساء) وهي في السابعة من عمرها، والتي لم يتردد مؤسس الرمزية في الشعر الروسي فاليري بريوسوف في مديح تجربتها بقوله (بداية واعية جداً) ولم يخفِ احتفاءه بكتابها هذا الشاعر نيكولاي غوميليوف (زوج أنّا اخماتوفا) فيكتب عنه (كثيرٌ هو الجديد في الكتاب) هذه الشاعرة، التي تنقلت في مواقفها السياسية من مناصرة الجيش الأبيض (القيصرية) والوقوف ضد ثورة أكتوبر الى الاقتناع بالعيش تحت راية الجيش الاحمر، وتحمل الجوع والموت، فتترك منفاها وإن كان بفرنسا، لتموت منفيةً في بلادها، وإن بتترستان، أقاصي الثلج.

  لم تكن تسفيتايفا التي لم تأسف على شيء سوى الموسيقى والشمس موهوبة حسب، إنما كانت بخيال متفتح، يسبقها الى حيث تروم (أنا أفتّح الوردَ قبل أنْ يتفتح، وبخشونة ألمُسُ أكثرَ الاشياء رقَّةً، وأفعل ذلك لا إرادياً) هذه الشاعرة التي جاءت الى عالم الشعر في لحظة تاريخية، تمثل ذروة التنافس بين شعراء بطرسبورج (بلوك، غومليوف واخماتوفا) من جهة وشعراء موسكو من جهة ثانية. فتشارك- دون علمه- في مسابقة ينظمها الناقد بريوسوف- الذي امتدح تجربتها في البداية وأنكرها بعد ذلك- فتفوز بالجائزة (مدالية مطليّة بماء الذهب) لكنَّ اللجنة (بريوسوف) ترى مقاسمتها مع شاعر آخر، فتتقبل الطعنة القاسية، وتكتب: نسيتَ أنَّ قلبك ليس أكثر من سراج/ وليس نجمة/ أنَّ شِعْرَك من الكتب/ ونقدكَ من الحسد/ أيّها العجوز باكراً، مرةً أخرى/ للحظة بدوتَ لي شاعراً عظيما).  عاشت مارينا تسفيتايفا شبه غريبة بين عمالقة الادب الروسي، بوشكين ومايكوفسكي وغوركي ويسينن وأخماتوفا وباسترناك.. تنعمت بمديح بعضهم وتألمت بشحِّ البعض الآخر في قول كلمة بحقها، هي التي أحبت تولستوي، وشاركت بتشييع جنازته، القضية التي أغضبت والدها البروفيسور ايفان فلاديميروفتش تسفيتايف، رئيس قسم الفنون في جامعة موسكو، والذي منعها من المشاركة تلك. أتقنت عددا من اللغات الأوروبية (الالمانية والروسية والايطالية والفرنسية) مثلما كانت تتقن الموسيقى والعزف، لكن عشقها كان للكلمات والقوافي والادب بعامة. هذه الطفلة الشاعرة التي كتبت الشعر وهي بنت خمس سنوات، والممسوسة بالشعر والنزق والمعرفة والطيش، لم يكن أمام والدها إلا أن يستجيب لطلب ادارة مدرستها سنة 1907 بالتخلص من العدوى الخطيرة، من التمرد والاستهتار والتحدي التي تنشرها فيها، فنقلها الى مدرسة عادية اخرى، الامر الذي اتاح لها اقتحام عوالم ساحرة في شعر بوشكين وغوته وشيلر.     تعشق نابليون على الرغم من علمها بأنه غزا بلادها، وتقول عنه: «ليس بونابرت القرن التاسع عشر بل القرن التاسع بونابرت» فتسافر الى باريس وهي في سن السادسة، لتزور المسرح، وتتعرف على سارة برنار. يقول عنها جوزيف برودسكي: «حقا أنَّ تسفيتايفا هي الأصدق بين الشعراء الروس، غير أن هذا الصدق هو قبل كلِّ شيء صدق الصوت- مثلما يصرخون من الألم». لذا كان الإعلان عن الحرب العالمية الاولى 1914 نقطة التحول المصيري في حياتها وأسرتها ووطنها: «الحرب، الحرب- مجامرُ بخور عند صندوق الأيقونات... انا راقصٌ صغير/ على حبل، كأنه يكاد أنْ ينقطع/ انا ظلٌّ مسرنمٌ لقمرين مظلمين» ولم تكن الحرب وحدها نقطة التحول المصيري انما تنازل القيصر نيكولاي الثاني عن العرش، وعودة فلاديمير ايليتش لينين الى بيتروغراد من مهجره الاوروبي، واستيلاء الشيوعيين على قصر الشتاء كانت نقاط التحول الكبرى في

حياتها.

   في مساء من تموز 1921 يطرق بوريس باسترناك بابها، حاملا رسالة من ارنبورغ يخبرها فيها بانَّ زوجها سيرغي إفرون، الغائب، منذ اربع سنوات، مازال على قيد الحياة في براغ، فيكون همّها الالتحاق به، في الفترة هذه تعتقل السلطات السوفيتية غوميليوف زوج اخماتوفا بتهمة الولاء للنظام القيصري، ثم يعدم رميا بالرصاص، وبعدها بأيام يموت الكسندر بلوك.. فتلجئها الحاجة لبيع معطف الفرو الذي كان لزوجها، وثُريّاً من طراز اثري قديم، ثمنا لدفع بطاقتي سفر لها ولابنتها الى براغ، ثم سيكون عليها انتظار عامٍ بنهاراته ولياليه لإكمال المبلغ المطلوب. في ربيع 1922 تغادر الى برلين التي كانت تسمى برلين الروسية لكثرة من فيها من الأدباء الروس، ومن هناك لتصل الى براغ وتلتقي افرون. لكنَّ باسترناك الذي حمل الرسالة لها، والذي كانت تأمله زوجاً هو الذي أخذها الى السوق ليشتري بدلةً على مقاسها لزوجته! تسفيتايفا هي التي تعلقت بريلكه أيضاً، ولم تره. تخاطبه، فيردَّ، وتخاطبه فيموت.  في صيف 1925 تتهم صحافة المهاجرين الروس في باريس سيرغي افرون (زوجها) بمغازلة الشيوعيين السوفيت فترد تسفيتايفا  قائلة: «روسيا ليست مساحة افتراضية، بل هي حقيقة الذاكرة والدم، ولا يستطيع ان يخاف من الغياب عن روسيا، ومن نسيان روسيا الا من يفكر بروسيا منفصلة عنه» ثم تكتب: سأعود الى روسيا، لا كنفاية سُمح لها، وإنما كضيف مرغوبٍ ومنتظر. فتصل موسكو في 31 تشرين اول 1925 بعد سبعة عشر عاماً من غربتها باوروبا، لكنْ يالخيبتها، فلا زوجها افرون كان بانتظارها، ولا صديقها باسترناك ظلَّ بلا زوجة بانتظارها، هو الذي وعدها بالزواج. «حين كنتُ هناك كان لي وطنٌ، أقله في الاحلام. وحين جئتُ حرموني حتى من الحلم».  في الثامن من آب 1941 كان باسترناك على النهر، يقف ضمن مودعيها قرب السفينة، التي ستقلها مع مجموعة من المثقفين الروس الى تترستان، وبعد عشرة ايام من وصولها تختار قطعة حبل مما كانت تحزم به اغراضها أنشوطة: «سأموتُ ليس لانَّ الحالَ سيئةٌ هنا، وانّما لانَّها «جيدة» هناك. «في 1950 أقرَّ اتحادُ الكتابُ السوفيتُ الاعترافَ بمارينا تسفيتايفا شاعرةً

عظيمة.