الجدليَّة الفكريَّة الشعريَّة الحديثة

ثقافة 2023/01/08
...

  وجدان عبدالعزيز

هناك جدليَّة ذهنيَّة بين الفكر والشعر، وكما نعرف أنَّ الفكر له أركان هي: الواقع، والحس، والدماغ، وحالات التواصل مع الآخرين ومع الحقائق.. من هنا فالفكر يُعرف بأنّه مجموعة كبيرة من العمليات الذهنيَّة والعقليَّة، التي يقوم بها العقل البشري، والتي تجعله قادراً على تكوين شكل مميز للعالم، الذي يعيش فيه الإنسان.

وبناءً على ذلك يصبح عالماً به، وقادراً على التعامل معه بفاعليةٍ أكبر، من أجل الوصول إلى الأهداف والخطط والرغبات المراد تحقيقها. والفكر يعني علاقة الإنسان بنفسه، وعن العالم الذي يعيش فيه، وعلاقة الإنسان بالظواهر، التي له تماس مباشر معها، وعن الوعي بتلك الظواهر، هذه العلاقات تحتاج إلى أداة للتعبير.. وكانت في العصور القديمة مثلا، تتم عن طريق الشعر، الذي هو مزيجٌ من الأحاسيس والعواطف والعقل الأولي، وسمِّي بالشعر الأسطوري، فالشعر الأسطوري خصوصاً، هو النشاط الفني الحقيقي الأول، الذي أنتجه الإنسان، ليعبر بواسطته عن نفسه.. وعن إدراكه للعالم.. بغض النظر عن إرهاصات بعض الفنون الأخرى، المتمثلة ببعض النقوش والرسوم على الصخور وجدران الكهوف والمغاور، فتلك إرهاصات منعزلة، لا تشكل نواة رؤية (ورؤيا) شاملة تنظّم علاقة الإنسان مع مفردات عالمه الذي يعيش فيه.. كما هي الحال بالنسبة للشعر،‏ وشهدت الأسطورة تطوراً ومرت بثلاث مراحل: عصر الآلهة، وعصر الأبطال، وعصر الإنسان، والحقيقة أن الشاعر الحديث في ظني يمتلك طاقة تخيليّة كبيرة على خلاف شاعر الأسطورة قديما، نتيجة ما حققه الإنسان من تقدم مذهل في الميادين كافة. وكلنا يعلم أنَّ الخيال وظيفة من وظائف العقل.. وأنَّ العقل يوظف التراكم المعرفي والفني والتقني.. ويوظف الذاكرة المفعمة بالإنجازات، في قيامه بوظائفه.‏ ومن أرسطو فصاعداً بدأ الفكر يفترق عن الشعر لانصراف الإنسان عن عالمه الداخلي «ذاته» الى العالم الخارجي بغية معرفة المزيد عنه والتحكّم فيه.. بدءاً من هذا الفهم بدأ يفترق الشعر عن الفكر، وبدأ يتميّز النصّ الشعري من النصّ الفكري، الذي اصطلح على تسميته بالنصّ العلمي، مع أن مضمونهما واحد في كثير من الحالات.. فكلاهما منشغل بالقضايا ذاتها، وكلاهما يبحث عن الحقيقة.. لكن أصبح لكل منهما طريقته واستراتيجيته في التعبير، وفي تناول الأمور.. ففي حين نجد أنَّ النصَّ الشعري منذ القدم، قد احتفظ باستراتيجية التعبير الأسطوري، المتمثلة بالغنى الدلالي، وبالنداوة الروحيَّة، وبالدفء العاطفي، وبالحضور الإنساني (الذاتي والعام)، وقبل ذلك كله احتفظ بالتعبير بواسطة الصور.. نجد النصّ العلمي قد نحا منحى آخر هدفه الانضباط الدلالي، والتحديد المعرفي الدقيق، والموضوعيَّة، والحياد، والاستقلال عن ذاتية منتجه قدر الإمكان.. ونركّز على اللغة في الشعر، فاللغة أداة توصيل، تحمل المفاهيم بأمانة وحياد.. ومنتج النصّ يحرص أشدَّ الحرص على التحديد والدقة والوضوح، وتكافؤ الدال والمدلول، وبهذا وضعنا أيدينا على نقاط الاختلاف بين الفكر والشعر، ونقاط الالتقاء.. وبقيت نظرة الإنسان في بداية الأمر، كتفسير للطبيعة منحصرة في هواجس وتخيّلات، وتوضح هذا الامر من خلال دراسة الميثولوجيا والفلسفة القديمة، وظهر هذا بالقول أنَّ الخيال سابق للفكر.