الفراشات السوداء والوعي العميق للذات

ثقافة 2023/01/08
...

 ضحى عبدالرؤوف المل


تنعكس فكرة الشبق الإبداعي التخيلي في كتابة مذكرات هي بحدِّ ذاتها تمثل قوة الكتابة في الأدب الروائي والحقيقة ذات الأبعاد السرديَّة المختلفة في مسلسل الفراشات السوداء (Les Papillons noires) من خلال الاعترافات كشاهد على قوة وعي الكاتب في تتبع حياة الشخص الذي يروي هذه المذكرات بمصداقية يدعي أنّها الحقيقة مع مراعاة ما تقتضيه الاختلافات في بنية الرواية التي يسعى لكتاباتها الشبح الروائي الذي يُدعى مودي، ويضطر فيما بعد الى معرفة أبعد من حياته وإرثه وفق ما تقتضيه معرفة الحقيقة كاملة من أمه التي تقلب المقاييس الروائيَّة رأساً على عقب عندما تنقلب رؤية الأبطال الذين يحاربون بعضهم بعضا للحفاظ على أواصر العائلة المتوارثة من الأب القاتل المتسلسل الى الابن، وهو الكاتب الذي يقع تحت براثن القتل أيضاً. فالابن المولود الذي تريد حمايته الأم المهتمة بعلم التخلّق ربما يختلف عن أبيه لكن من المؤكد أن جينات الأم ليست كجينات جدته. إذ يحاول الكاتب التركيز على السرد بغض النظر عن التحليل الأساسي والتكويني للقصة للتعبير عن الروائي الذي يريد خلق شخصية توازي علم التخلّق الذي تسعى له زوجة الابن البعيدة كل البعد عن فن الكتابة الذي يُحدث الكثير من الفروقات في الأحداث وتغيراتها ما بين الخيال والحقيقة أو ما بين ما تمَّ استحداثه في اللحظات الأخيرة من القصة الحقيقيَّة التي يرويها الأب. ليكشف لابنه الكاتب الشبح أو الكاتب الذي يهتم بأدب السيرة الذاتيَّة متنقلا من شخصية لشخصية أخرى من خلال اعترافاته التي يريد أن يحتفظ بها في رواية كإرث له. إلّا أنّنا مهما حاولنا اكتشاف الحقائق في الأدب الروائي أو السردي تنسدل الستارة على الكذب أو على قدرة الخلق والانغماس في الخيال. فمسارات الأحداث لقاتل متسلسل تجعل القارئ أو المُشاهد يتساءل هل يحاول الكاتب تحريض التساؤلات النفسيَّة التي يُعاني منها لاكتشاف حقائق شخصياته كما ينبغي؟ وهل المحاكاة في أدب الاعترافات هي سمة من سمات فاعليَّة ضمير المتكلّم؟ أم أنَّ الكاتب أراد أن يجعل من الرواية شهادة على حالة معينة وهي إبراز علم التخلّق؟ أم أنَّ كسر التابوهات الإجراميَّة عند الكاتب تحتاج لشجاعة بعيدة عن التردد للدخول في المقموع والمنهي عنه؟ وهل تصبح الاعترافات شاهدا على الجرائم أم أن التقادم يُسقط العقاب، وكل ذلك يصبح الإرث فعلا هو رواية؟ 

يفترض الكاتب حقيقة فعليّة يكتبها أمامنا لنصدق تماما رواية الأب التي تشترك مع أحاسيس الابن الذي بدأ يعاني من تقلّبات مزاجيَّة لم يكتشفها في نفسه من قبل حتى وهو يمارس فن الملاكمة للتخفيف من حدّة الاضطرابات التي كان يعاني منها، لنشهد على معاناة الكاتب عند كتابة روايته عندما يقع في حالة من التذبذب ما بين التخيل والحقيقة، إذ تشكل كل شخصية نوعا من التفرّد أو انبثاق ذاتي هو إعادة تكوين قصصي من منظور شخصي للكاتب وقدرته على لمس الحقائق المنطقيَّة المشعّة بحساسيَّة الكاتب والذكاء المرتبط بالوعي في قدرته على بناء الصور، بما يتناسب مع الترتيب الزمني والذي تحدث عنه الأب أو المعترف بمسيرة حياته التي استطاع فيها الإفلات بجرائمه المتسلسلة، والتي تبدو مرتبة مع الأحداث المرتبطة بقوة الحب لامرأة استطاعت قلب حياته رأساً على عقب. فهل الشخصيات الروائيَّة تندمج فعليَّاً مع الروائي لتشكل تحولات وتداخلات خطيرة في حياته؟ أم أنَّ الذكريات لهذا المجرم المتسلسل تثير رغبات الرعب والحب معا في نفس كاتب الاعترافات الذي يقلب الموازين الكتابيَّة في اللحظات الأخيرة من المسلسل؟ 

تتلخص الفكرة في الرجل العجوز الذي يريد جعل إرث حياته مذكرات يحولها كاتب يستدعيه الى رواية. لذلك يستأجر كاتبا معروفا ليعترف له بقصة حب تقوده إلى سلسلة من الجرائم أدت الى اكتشافات مذهلة وصادمة. لكاتب يتتبع فعليَّاً الأحداث الحقيقيَّة، ليجعل منها رواية تجذب القارئ وتضعه ضمن حقيقة غير متخيلة مبنية على قوة السرد الفعليَّة التي تتمثل بما يكتشفه فيما بعد عن والدته فينصدم ويصدمنا معه. إلا أنَّه هذه المرة وقع ضحية شخصياته التي خرجت الى الحقيقة من دون إحساس منه بالمخاطر التي تؤدي الى هلاكه، وفق بنية الحقيقة والخيال والخيط السردي الفاعل في بنية الرواية ومصداقيتها أو الأحرى تداخل الخيال مع الحقيقة التي تتلاشى كليَّاً عندما نبدأ بالغوص مع «أدريان» وهو الممثل «نيكولاس دوفوتشيل» الابن الحقيقي لقاتل متسلسل حاول أن لا ينجب الأطفال لأنّه لا يريد أن يبقي أيَّ صلة له في الحياة بعد رحيله سوى روايته أو ذكرياته. لكنه يفاجئ بالمرأة التي قتل من أجلها الكثير من الأشخاص، والتي استطاعت الهروب منه لتمارس أمومتها بعيداً عنه. فهل التقلّبات المزاجيَّة للشخوص في الحقيقة تتغاير عمّا يكتبه الروائي؟ وهل التنبؤ الروائي بالنهايات هو إلهام لا يعني أنَّ كيفيَّة الأحداث هي معادلة لعلم التخلّق الفعلي المرتبط بجوهر الشخصيات؟ وهل يحتاج الكاتب فهم علم التخلّق جيداً قبل البدء بالكتابة؟ أم ان التحديث والترتيب الزمني لا ينفصم عن قوة الأقدار وتغيراتها التي تربط البشريّة ببعضها البعض كما الفراشات السوداء التي أصبحت رواية فيما بعد؟