ياسين طه حافظ
في الأيام التي كنت أدرس فيها المسرحية الشعرية في الأدب الانكليزي، توقفت كما لأقارن بين شاعر يكتب مسرحية شعرية وآخر كاتب مسرحي ليس شاعراً. رحت أقارن بين شون أوكيسي ووليم بتلر ييتس. في الثاني، ييتس، شعر أكثر وعند الأول واقعية أكثر. هناك كشف واقع وحميمية محلية تلامس العالم. وهنا لدى ييتس مع الأساطير الارلندية والقرب من الميتافيزيق حياة، حياة أنقى وجمالية لا تضاهى. في مسرحية أوكيسي الواقعية حياة زاخرة ولا تفتقد الشعر. إنما هو الروح التراجيكوميدي بحيويته الخصبة والساخنة. ومع ييتس انتباهات أبعد نفاذاً ولمسات لإنسانية جميلة لم تسلم من أذى أو حزن.
وبين الانشغالات الثقافية المتعددة وبين ما يقتضيه العيش من أعمال كنت أشاهد مسرحاً بين حين وآخر. قليل من المسرح المصري، أغلب الجيد من المسرح العراقي. عموماً كنت أقطع المشاهدة والمتابعة أحياناً استياءً، أو رفضاً للمبالغات، أو للتهريج، أو للتعسف اللغوي والعواطف المجانية. يمكن اختصار ذلك بالجهل الثقافي. أحد الأسباب هو المباشرة السياسية أو محاولة إبرازها. فلا نحن أمام مسرح فكري كما قدمه توفيق الحكيم بالعربية وبيكت بالانكليزية، ولا نحن أمام نماذج من مسرح الجيل الثاني، مسرح يوسف إدريس ونعمان عاشور وسواهما، اللين استثمرا الصراعات الاجتماعية الدائرة في المجتمع العربي. معنى هذا أن هناك قضايا جديدة تُثار غير القضايا الموروثة.
موضوع المسرحية وحده لا ينهض بمسرحية جيدة أو رفيعة. في المسرح المتصف بسرعة المعالجة يقدمون حقائق، ولكنهم بلا رؤية ثقافية متكاملة. ودائماً ليس أصعب من معرفة الحقيقة وليس أصعب من رؤيتها رؤية سليمة. وخطأ الرؤية هذا هو ما يغلب في المسرح السياسي، سريع المعالجة والمتهور أحيانا. هناك غالباً ما نجد خطأ الفهم للحدث السياسي، فضلاً عن خطأ الرؤية لما وراء تصرف الشخوص. سوء مثل هذا يثير فرط الحماسات والتلقي الصاخب. نحن نحتاج إلى الفهم والرؤية الأفضل فحياتنا ملأى بالأخطاء والتهريج الذين نريد أن نبعد عنهما، لا أن نقابلهما وجهاً لوجه.
وحين نتبع الأساليب المعروفة بالأدب المسرحي الغربي، نقلدها أو نتبنى نماذجها، لا نرتكب خطأً، فهذا أمرٌ سليمٌ حين نطرح قضية إنسانية مشتركة بعيدة عن الخصوصية المحلية للمجتمعات. لكن في مجتمعاتنا المحكومة غالباً بالخداع الرسمي والمجتمعي وبالإعلام السياسي رسمياً أو منظماتياً وبعلاقات اجتماعية نفعية هابطة، يعجز الأسلوب المدرسي والانموذج الجاهز عن تأدية المهمة ونحتاج إلى أسلوب فيه اضافة، فيه ابتكار. أسلوب آخر جديد لتناول الموضوع، وأن يكون جديداً أو تطورا من موروث.
لقد انتقل المسرح من قضايا المجتمع سياسية الدلالة إلى المسرح الفكري أو الثقافي الذي امتاز به مثلا عادل كاظم. وكنا نأمل أن تتضح مسرحية تجمع المضمونين، فكرية واجتماعية عامة دونما فاصل تصنيفي ودونما تهويل. مسرح حديث ينتمي إلى الفن المسرحي، وقد تحرر من عبء السياسة وانحيازاتها الفاضحة والمربكة للنص. للأسف ما استطعنا أن نرسم مرحلة تقوم على أصول مدنية حديثة بمذاق محلي. ولا مسرحية جديدة بمذاق أجنبي تحمل جديداً ناضجاً منا. صحيح لنا كلكامش وصحيح كانت لنا بعض مسرحيات شكسبير وبريخت وجاءت مسرحيات محلية على هامش الاثنين، لكن لم تأتِ حتى الآن المسرحية الفنية الجديدة إلا في محاولات لم تترسخ من الاكاديمية، من الشباب المتطلع والمتحمس للتجديد.
أعزو تردد المسرح ضمن هذه الاجواء إلى السياسة. فالقناعات السياسية واستجابات المستائين أو العقائديين والجماهير القريبة منهم صنعت جواً ومشاهدين من نوع خاص، واستجابات ثابتة خاصة، من ثمَّ صارت الحاجة لكتابات مسرحية، بل وتمثيل يرضي هكذا اجواء. انغلق المسرح منذ عقود على الهم السياسي، فربحنا توعية و»اثارة ضد» لكن خسرنا الخطوة الأخرى فناً!هذا الأمر لم يقتصر على المسرح هو واضح في الشعر والرواية. لكنه في هذين لم يتسع فيوقف تقدم وازدهار اتجاهات فنية لا في الشعر ولا في الرواية. الرواية العراقية بخير ولنا أسماء مشرفة وأسست للمستقبل.
نعم كل فن محلي يبحث عن أساس اجتماعي يقوم عليه. ولكن يقوم برؤية فنية ايضاً. ويمكن أن يكون هذا الفن على أساس اجتماعي أيضاً. القضايا الإنسانية لا يقتصر طرحها بالأسلوب التقليدي أو حتى بالمعروف من المستجد. القضايا الإنسانية بحاجة أكثر من سواها إلى فن جديد وأساليب تعبير أبعد عمقاً وأكثر ايحاءً وخصباً. كثرة الكلام وصراخ الممثلين والتعابير المستفزة عن الشأن العام، هذه وحدها لا تكفي. وحدها تصنع تخلفاً فنياً!
إدراك كاتب النص، وإدراك ممثله، إلى أنه يعمل فناً وفناً يحمل قضية إنسانية، هذا الفهم أو هذا الإدراك يمنح الكتابة أفقاً ويمنحها قوة ويمنحها أبعاداً لا تفوت المشاهدين في المسرح. المسرح الحضري رواده مدنيون أو مثقفون أو أوساط مثقفين. وأولاء امتلكوا ذائقة المدنية والانتباه للنفس وإلى محنة الإنسان. المطلوب الآن أوسع مما كان وأرقى.
لا يفوتني أن جمهور مسرح متقدم سيكون أقل عدداً وأقل تصفيقاً. في رأيي لا يشكل هذان الامران خسارة قدر ما يشكلان كسباً. المسرح المتقدم في كل العالم للنخبة! مسرح واحد هو المسرح التقليدي أو «الكلاسيك»، مثل مسرح شكسبير، يمكن أن يكون للجميع. هو في الحقيقية ليس للجميع، لكن كل مستوى يجد فيه بعده الخاص وذائقته. المشترك هو أن النخب والجمهور العادي يجلسون في مبنى واحد ويشاهدون المسرحية نفسها. الفرق هو في الفهم وفي التذوق وفي استيعاب الأفكار والتقدير الفني. هنا مستويات مختلفة تشاهد المسرحية كما لو أنك تقدم مسرحيات مختلفة لجمهور واحد..
ما اتمناه وأحرص عليه، هو أن يفكر المسرحيون الأكاديميون الشباب، في تجاربهم المسرحية الجديدة، بالفن المسرحي. بالمسرح فناً. وإذا ما ارتأى أحدٌ أن يكشف عن هم اجتماعي، فليضاعف ثقافته الفنية حتى تستطيع أن تقدم وعياً جديداً معاً وفناً جديداً! هذه مهمة ليست سهلة، ولكنك تريد التقدم وتريد الجديد وتريد أن تعبر مرحلة فنية، فعليك أن تتحمل شروط المهمة. وهذا عمل عظيم يستحق أن نوفر له مستلزماته. عمل عظيم لن يكون سهلاً. والمسرح اصلاً عمل ثقافي. ثقافة حديثة تصنع بالتأكيد فناً حديثاً وثقافة حديثة تمنح حتى الموضوعات والاشكال التقليدية قيماً جديدة معاصرة. لا تفكروا في الصخب، فكروا بالإصغاء. والاصغاء لما يقال، لما يكشف عن خفايا الروح البشرية، والعذابات اللامرئية للإنسان في العصر. عن حاله في الساعة التي نحن فيها وفي التاريخ!