تحرير علي.. مرويّات لونية للتاريخ

ثقافة 2023/01/09
...

 د. حنين السلطاني


تكشف لنا المسيرة الفنيَّة لتحرير علي عن مضامين إنسانيَّة ارتبطت بمكان الفنان وبيئته الطفوليَّة، وعن مدى تعلّقه بجذوره القديمة مع عدم إغفال تفاصيلها الدقيقة المدونة على جدران أزقة أحاطت بشط العرب، حيث مثلها علي كجزءٍ من موروثات المحيط، وجسَّدها باستخدام لوني متنوع، ما جعله يتمكن من إثارة المتلقي واندماج إحساسه مع إحساس الفنان، فرطوبة شط العرب تفوح من ثنايا أعماله لتكسبها إحساساً عميقاً بالحياة والاشتياق إلى عوالم الحب واللذة المشبعة بثرثرات الحياة اليوميَّة ضمن الواقع الاجتماعي. 

ويحقق علي مكانته بالمنجز الذاتي في أعماله الفنية كاشفاً عن علاقته بالبيئة والهوية والتوقيع عبر انتقاء مخياله لزاوية النظر الخالصة، مؤكداً الثوابت القديمة المعرضة للهدم والزوال في وقت لا يقف فيه موقف الباكي على الأطلال، بل يضع ذاته موضع الراصد في محاولة دمج الذاتي 

مع الفضاء اللامحدود للموضوعي.

وتظهر في أعمال الفنان مضامين اجتماعية عديدة تعبّر عن سرد تاريخي لمرويّات كبرى ترسّبت في اللاوعي الثقافي للمجتمع، فتناولها علي مثل حكاية للتسلية وبشكل لا يخلو من عِبرَة، لذلك عمد الفنان إلى استحضار رموز ذات موروث الشعبي.

ويتضح في أعماله أيضاً، تلك الدلالة السيمائية التي أخذت أبعاداً فكرية وجمالية عبر إعادة تركيب الواقع بشكل غير واقعي محمل باللاشعور وما به من إشارات ورموز ظهرت من خلال الصدى لنداءات ذات قلقة تبحث عن الحرية والاستقرار، وقد تحققت عبر استخدام الوسائل الحدسيَّة لتجسيد الظواهر العقليَّة، وكذلك من خلال ارتباطها بعالم الجنس، وجعلها دلالة واقعية جديدة من الأفكار والموضوعات.

 لقد استعان الفنان تماهياً بجماليات مقتبسة من الأفكار والأشكال المختلفة وزاوجها في أعمال تقوم على عمليات استحضار وجمع بين الأشياء المتناقضة واللامترابطة كنماذج فنية متنوعة ذات دلالات مختلفة. فنرى الفنان يعمل ومن خلال البيئة إلى أن يربط ما بين الفضاء التشكيلي والمتلقين، يخرج الفرد من خلاله عن كونه فرداً ليبني له فضاءً آخر ضمن إطار فضاء التشكيل ذاته، وقد يعمل العرض البصري على التكيف فيزيائيا وتقنيا مع الأشياء الطبيعيّة.

حيث أصبحت أعماله الفنيَّة شيئاً فشيئاً تفقد الروابط التي تجمع عناصرها في وحدة واحدة، وتعددت بذلك المراكز وتشتت الأشكال إلى رموز وعلاقات لتسجيل حالة التشتت من خلال خرق الرؤية التقليديَّة للوحة التشكيليَّة وإعادة تشكيلها وفق رؤية جديدة، ومعالجات جديدة للسطح التصويري، طبقاً إلى ذائقيه ترتبط بإزاحات قيميَّة كبيرة.

 جاءت المعالجات الشكلية في أعمال الفنان، لتصوغ أشكالاً اعتمد فيها الخطوط المنسابة بفطريَّة لا يمكن معرفة ما سيؤول إليه الشكل. وبتقصي هذا الأمر في الشخصية الرئيسية في هذه الأعمال، وبالإيغال في ركام الأشكال التي تشكل أرضية العمل، نجد الفوضى العارمة في صياغة أشكال فقدت هويتها إلا من بعض الملامح الآدميَّة والحيوانيَّة ذات الخطوط المرنة العشوائيَّة التي يغيب عنها أي تكوين أو نظام هندسي تبعاً لمرجعيتها الفطريَّة البدائيَّة. 

كما أكتسب أعمال تحرير بُعداً دلالياً تجلى عبر المعالجة الشكليّة والأسلوبيّة والتقنيّة، فتشكلت انعكاساً للحياة الاجتماعية والاقتصادية السائدة، أي كلما زاد التطور الاجتماعي والاقتصادي والفكري خاصة، انعكس ذلك ايجابياً على انتاجه 

الفني.

إن ما توصل إليه علي في أعماله يرتبط بالمحاولات السابقة (التخطي والتجاوز والتسطيح والذاتية والحرية) على صعيد تطور أشكال التعبير ووسائله والتخلص من بعض القيود الموروثة، والثورة عليها، فكانت أعماله التعبيرية كظاهرة تجسدت بوضوح في بداياته الفنية. والتي تتميز بالتعبير التلقائي المباشر والاهتمام بالفكرة التي يجسدها الشكل المبسط والخطوط التي رسمت من دون تفكير معمق، أو تعقيد، هذا الأسلوب المباشر في التعبير يلتقي مع العفوية التي يتبعها الأطفال في رسومهم. إن نتاج الفنان وحركته مادة أساسية له، وهي تشير إلى مجموعة خطوط في حركة اهتزازية مستمرة، وهي أيضاً تعد رفضاً وتجاوزاً للثبات والاستقرار المتحقق في الرسم التشبيهي.