نهايات القرن.. بيانات أدونيس الثقافيَّة

ثقافة 2023/01/10
...

 ريسان الخزعلي

 

( 1 )

«فاتحة لنهايات القرن -  بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة»، كتاب الشاعر المفكّر أدونيس الصادر عام 1980، يضم بيانات ثقافيّة/ فكريّة/ سياسيّة، مكتوبة منذ نهاية الستينيات وحتى عام 1979. ورغم مرور أكثر من أربعة عقود زمنيّة، إلّا أنّها ما زالت تمتلك قدرتها التأسيسيَّة الأولى في التشخيص والمكاشفة والتحليل للواقع العربي. بيانات طرحت الأسئلة واجترحت إجاباتها بوعي ثقافي شامل قلّما نتوافر عليه عند (الآخر) الذي يصطف معه في التوصيف الإبداعي/ الشعري.

إنَّ البيانات السبعة التي ضمّها الكتاب تُمثّل وثيقة ثقافيَّة عصريَّة لها قابلية الاستمرار، ولا يلفحها ما يستوجب التجديد إلّا بحدود التجديد ذاته. وقد جاء تسلسلها في الكتاب على النحو الآتي:

1 - بيان 5 حزيران 1967 

2 - البيان اللبناني

3 - بيان الرماد

4 - بيان للكل لا لأحد

5 - بيان المسرح

6 - بيان السياسة والثقافة

7 - بيان الحداثة

وقد تداخلت مع هذه البيانات استطرادات ومحاورات ومناقشات، لها أهمية البيانات ذاتها. ورغم هذا التنوّع في موضوعات البيانات، إلّا أنه أضفى عليها توصيفاً عاماً (من أجل ثقافة عربيَّة جديدة)..، وبذلك يؤسس أدونيس قصديّاً لفكرة مفادها، أن كل نشاط إنساني يطمح للتجديد والتغيير، سواء كان في السياسة أو الاقتصاد أو المسرح أو الابداع أو الحداثة بصفتها الشاملة، لا بدَّ أن يقوم على مقوّمات ثقافية تجعل من هذا النشاط فاعلاً ومؤثراً في حياة المجتمع، أي مجتمع، والعربي تحديداً.

( 2 )

أدونيس، في بياناته، كان كاشفاً وناقداً، استثمر كل أبعاده المعرفيَّة في التراث والفلسفة والفكر والسياسة والأدب والدين والفن، مما جعله في موقف تأصيل التأصيل، تأصيل كل ما هو قابل للاستمرار، وتصفية كل ما يقف حجر عثرة في مواجهة متغيرات وتحولات العصر من أجل ايجاد ثقافة عربية مختلفة، ثقافة جديدة لا تتفاعل مع الموروث كسلطة يُراد لها أن تستمر، بل تفاعل استثمار لكل ما هو قابل للتحوّل والاستجابة للنقد، إذ (لا يمكن أن تبدأ الثقافة المختلفة إلّا بنقد الموروث، نقداً جذرياً وشاملاً، ولا يمكن أن نبني ثقافة جديدة إذا لم نخلخل نقديّاً بُنى الثقافة القديمة، من دون ذلك تكون الثقافة الجديدة طبقة تتراكم فوق طبقات الثقافة القديمة، بحيث تمتصها هذه الأخيرة. ولا تكون لها أية فاعلية. لكن شرط هذا النقد أن يتناول أسس المشكلات لا ظواهرها، وأن يتناول من هذه المشكلات ألصقها بفكر العربي وأخلاقه وحياته اليوميّة، وأشدّها تأثيراً، وخصوصاً الدين والجنس).

( 3 )

إنَّ الثقافة الجديدة التي تنشدها البيانات تقوم على صياغة أسئلة حادّة، أسئلة مفتوحة وتجريبية، تفيد من من الأسئلة الأخرى التي تطرحها التجارب الأخرى (أما عن الأسئلة التي تقوم عليها مثل هذه الثقافة، أي الثقافة الجديدة، فمن الصعب صياغتها بشكل مسبق، إذ إن الأسئلة لا تُصاغ تجريدياً، وإنما تُصاغ تجريبياً، في أثناء النقد والمعاناة).وتخلص البيانات، في جانبها التطبيقي، إلى ضرورة الاستفادة من عناصر قامت في الفكر العربي: من القرمطيّة، مثلاً، في بناء المجتمع اشتراكياً، ومن الصوفيّة، في أنسنة الوجود والتوكيد على أولوية الباطن، والقوى غير العقلانيّة كالحلم والخيال والرؤيا والحدس، ومن الشعر في التوكيد على فاعلية الشخص الخلّاقة وبخاصة الحرية والإبداع. وهكذا يواشج/ أدونيس/ العناصر المختلفة ذات الجذور المتباينة، في تركيبة ثقافة جديدة شاملة، ولا يتردد من الإشارة إلى تجارب أخرى كالماركسيّة.

( 4 )

 في بيان (5 حزيران 1967)، يطرح أدونيس سؤالاً عريضاً: هل الدولة نظام حقاً؟ أم قبيلة ثانية؟ وهل ما نسمّيه نهضة أو ثورة أو انقلاباً، نهضة أو ثورة أو انقلاب بالفعل؟ وبعد استطراد فكري/ سياسي طويل، يخلص إلى أن الفكر العظيم، وحده، هو الذي يصنع القضايا العظيمة. وخُلاصة أدونيس هذه تدعمها حقائق تاريخيّة كثيرة، لم تكن خافية عليه.

وفي (البيان اللبناني)، يتحدّث عن التاريخ قائلاً: إن التاريخي الذي أنتمي إليه هو تاريخ وجودي في المكان، لا تاريخ المكان. كذلك تاريخه، وتاريخك. لذلك لست مرتبطاً بالمكان الذي أسكن فيه، بل بالتاريخ الذي أصدر عنه، وأنتمي إليه. وأرى أن أدونيس في هذه الرؤية الخاصّة يعكس حسّية هجراته المكانية خارج مسقط رأسه (قصّابين)، إذ أصبحت لبنان مستقراً مكانياً وروحياً وإبداعياً.أما في (بيان الرماد)، فقد كان استنتاج أدونيس يحدد: إنَّ اضطراب المجتمع العربي لم يعد يُفسّر بمجرد العوامل الاقتصادية – السياسية، وإنما يتوجّب النظر إلى ما هو أبعد وأعمق: الحضارة العربية كبنية شاملة، كنظام في النظر إلى الحياة والإنسان والعالم، وكمنظومة شاملة من القيم. ومثل هذا الاستنتاج، ما هو إلّا رؤية ثقافية عامة لما يُفترض أن يكون عليه المجتمع العربي، حاضراً ومستقبلاً. وفي بيان (للكل لا لأحد) يجري الحديث عن كشوفات الفضاء، وما هو التفاعل الذي يجب أن يكون المجتمع العربي عليه؟.. إذ يقول: في مثل هذه المرحلة من الفرح الكوني الغامر بعظمة الإنسان، يحلم الثائر العربي، عاملاً، أن ينتهي القبح الأرضي: الطغيان، العبوديّة، الفقر، الجهل، الدمار، العنصريّة... فحين تتطاول حدود الفكر إلى هذا المدى، يجدر بالإنسان ألّا يعود مأخوذاً بغير الكشوف التي تنقض أسس الشر والقبح والفساد، وتعطي للحياة والعالم صورة جديدة. ورؤية أدونيس هذه تؤكد دور العلم وكشوفاته من أجل حياة أرقى ووجود أنقى وأبقى.

أما في بيان (المسرح) فيكون استهلال البيان كاشفاً عن تفاصيل هذا البيان: المسرح خَلق: خلق شخوص، ومواقف، وأفعال. وإذا كان التصوير هو جعل الشيء على صورة، فإنَّ التمثيل هو جعل الشيء على مثال. فالتمثيل تصوير آخر. ورؤية أدونيس هذه تضفي على المسرح كنشاط، هالة قدسية، وهو كذلك.وفي بيان (السياسة والثقافة) تكون خُلاصة الاستنتاج واضحة: إنّ السياسي الذي يعزل المفكرين أو يهملهم، إنما يشل الطاقة الإبداعيّة الأولى في بلاده، أي يشل بلاده. وهو، في ذلك، يقدّم الدليل على أنه يمارس سلطة ليس أهلاً لها، وليس في مستواها. وأرى أن هذه الخُلاصة تعكس الوعي الثقافي العربي الجمعي بصوت أدونيس.أما في بيان (الحداثة) فقد كان الحديث عن الحداثة وأوهام الحداثة في المجتمع العربي. وقد كانت الاستدلالات منصبّة على الشعر العربي بأشكاله، وآخرها قصيدة النثر. وأدونيس هنا، يؤكد أنَّ الحداثة في الإبداع لا ترتبط بالعصر والعمر الزمني، إذ إن الإبداع لا عُمر له. لا يشيخ. لذلك لا يُقيّم الشعر بحداثته، بل بإبداعيته. فليست كل حداثة إبداعاً. أما الإبداع، فهو أبدياً، حديث.

( 5 )

ما تقدّم لا يفي بعرض الكتاب، إلّا أن أسلوب وفن تقليب الصفحات، هو الممكن في الكتابة الصحافيّة. وما هذه الوقفة إلّا استعادة لكتاب يمتلك الحضور الكاشف لمعنى الثقافة العربيّة، كي تكون جديدة.