ميّاس (الكوريغرافية)

ثقافة 2023/01/11
...

يقظان التقي 

خطفت فرقة «ميّاس» الاستعراضيَّة الأضواء في العام 2022، وتقدَّمت فرقة كوريغرافية طليعية، انبثقت من يأس اللبنانيين وإلى العالمية.

فرقة فنية لمؤسسها، ومصمم رؤاها المخرج نديم شرفان.

الفرقة النسائية قدمت أفضل العروض في مسابقة» AMERICA’s GOT TALENT “، وشغلت وسائل الإعلام والصحافة، وسارع كثيرون إلى توظيفها في الحسابات السياسية الداخلية اللبنانية.. 

طارت فرقة ميّاس الاستعراضية/الكوريغرافية إلى مسرح العالمية في صياغة فضاءات تشكيلية أخرى، ضمن المساحة المباحة للجسد في إطار الثقافة والجمال، وعلى خلفية مفهوم الجسد حيث تحلّ الأشياء اللبنانية الجميلة.

حطّت الفرقة في يوميات اللبنانيين البؤساء، ربما لأنَّ هناك من يطاول الفرقة في أهميتها وشهرتها وإسهاماتها في الفن، أو كتعبير لرفض للثقافة والرقص والحياة، والنقد والجمهور.

فيما كان يتابع لبنانيون آخرون مسلسل الاقتحامات وأخبار ممثليها ونجومها في ليالي القبض على المصارف اللبنانية. 

إسقاط عالم الرقص على الأوضاع الراهنة في لبنان قتل لها، ومع ذلك عبّرت الفرقة في تصريحاتها عن الأوضاع الراهنة في لبنان، ونشرت تأملات مضيئة بتفاعل ما بين الواقعي والخلق الفني وما له من علاقة بجوهر حياة اللبنانيين.

وأوضاعهم المتفاقمة، بالكاد تركت مكاناً لمهرجان الفرقة الفائزة بلقب برنامج المواهب الناشئة، الأكثر شهرة في أميركا. 

الفوز باللقب نافس خسائر اللبنانيين المتتالية، وعزّز الحيرة أكثر عند الناس. 

كيف يصرّفون كل هذا الفرح، وكيف يزيحون عن صدورهم كل ذلك البؤس المقيم منذ ثلاث سنوات؟.

خافوا مشاركة العالم دهشته بسحر الفرقة، الجاذب للملايين في الزمان والمكان.

هو أن يكون في كل مرة نجاح للبنان في الخارج، غير الداخل الممزق هو أمر خاضع للمساءلة.

لكنه نجاح بطعم استثنائي يؤكد اسم لبنان الذي يعرفه العالم.

سوء الأحوال حمل بعض الناس للسؤال، هل هذا الانطباع بالفوز خادع ومضلّل؟.

لا شك كانت لحظة إثراء ملوّنة لفرقة استعراضية حضرت بحيوية ودينامية.

توليفة نسوية تنتمي إلى طبيعتها وحركيّتها، بالانتقال من جسم لآخر، ومن محل لآخر على الخشبة. 

لكن لم يخل العرض من مشكلات.

كل خطوة فيه، كانت لتأخذ الفرقة إلى حافة الهاوية، كما جسم لبنان المتروك لذاته، ولهاويته.

كانت لميّاس قوانين حركيّة أخرى غير أخبار الاقتحامات والعنف والاصطفافات بطوابير أمام الأفران ومحطات المحروقات والصيدليات، طوابير الجسد الذي يساق إلى كهف الجنّ والجحيم.

كشفت مياس عن الجنّ الآخر، لاستغلالها جمال الجسد الشرقي في الخروج إلى طابور الضوء بالرقص من دون حكاية ولا موضوع.

منصة ليست متباعدة في مشاعر الفرقة عن الناس ومشكلاتهم، وهمومهم، وفقرهم، وأحوالهم.

أجمع النقاد الفنيون الغربيون على وصف العرض اللبناني، كأفضل العروض التي شهدها الموسم 17 للبرنامج.

فرقة جامعة لتابلوات شرقية وغربية، وليدة أساليب فنية عدة، استطاعت أن تجمعها في بيئة واحدة. بنية فنية واحدة تتكامل وتتداخل في صعوبة. 

حالات/ متتاليات، جمعت كل الأساليب.

لكن خرج منها الفريق باستعراض، حمل توقيع الفرقة الناشئة. عرض أذاب الـتأثيرات الفنية على اختلافها بالمهنة وبرؤية كوريغرافية. رؤية شرفان ليس لها إيقاع معين، سواء السريع، أو البطيء، الشرقي، أو الغربي. ليست لها نظرة راقصة خاصة بها، وليس للكوريغرافيا هنا نظرية سابقة. هي الآلية، التي جاءت سريعة في العرض. ليست أسرع من إيقاعات شاهدناها في أفلام الرعب الأميركية، التقطت المتفرج من أول العرض إلى آخره، من دون فراغات ولا ملل، ما جعلها تسيطر على الفضاء المسرحي. اختارت الفرقة الإيقاع السريع من دون فواصل.. ثم جاء استخدام السينوغرافيا بطريقة مهمة، وهي التي أعطت العمل الإيقاع السريع ذلك. لجمال السينوغرافيا قدرة على قلب الجمال إلى صورتها. بخلاف فرق تقوم الكوريغرافيا عندها على حكاية، موضوع ما، خبريات وقصص. مع فرقة “مياس”، هناك فيزيائية جسدية قوية كوجود، من دون وصفة سابقة محددة. كينونة أخرى بسيطة شاعرية، لروح فرقة من جهة النفس، ودائرة الغرائزي في الكشف عن البطن، ولمحرم، أو خمار، خلف الأقنعة. يمكن مقارنة عروض الفرقة مع عروض أميركية أسرع، وأخرى عروض إنكليزية وفرنسية بطيئة. أما مقارنتها مع عروض لبنانية كـ”فرقة كركلا” للرقص الشعبي في بداياتها، أو “مشروع ليلى” فتخضع لمعايير مختلفة في الموروث والأداء في حركة الجسد والمفردة الفردية الأكثر تعبيرية. لكن في عرض ميّاس يلعب إيقاع الوقت الفوري والتواصل الاجتماعي مع العالم وفوران الجسد لعبة التوقيت الخطر. مشهد واحد كان ليخرب كل شيء، ولينتهي العرض. عرض جاء في الوقت والمسافة. فالوقت هو المسافة، والمسافة هي الوقت، ومن دون فجوات إيقاعية تغطي بطئاً ما.

لحظة مضيئة فنياً حضرها العالم، إلا بعض اللبنانيين، اللاهين في ملاعبهم الفوضوية، ولا يتبينون أهمية التفاعل مع العالم، وجوهر المسرح ودوره ومعناه وعلاقته بالحياة الإنسانية، ولا يريدون لا شعراً، ولا رقصاً، نتاجاً لشبكة معقدة من الأزمات اللبنانية الفكرية والدينية والاجتماعية.

هو الجسد إذن آخر مساحات الحرية في لبنان هو المساحة وهو المكان. تعامل الفريق مع المكان الواسع بأقصى الأداء الجماعي، وبتنويع الحركات، وبتأثيرات كثيرة عملوا عليها، وتعرضوا لها بالموسيقى والرقص والغناء. الزمن لعبة خطرة جداً لعبها الفريق مع جمهور رقص معهم، ألغوا المساحة بينهم وبينه. جمهور عالمي من بيئة نقاد، من دون أن يحسبوا حساباً لهذا الجمهور المحلي أو ذاك. فحملوا أشياءهم المتعلقة بهم والعالم والإنسان، أشركوا الجمهور بها، كجزء أساسي من السينوغرافيا البصرية، على مسافة قريبة من الأنفاس، الماكياج، والإضاءة، والاكسسوارات، مساحة خطيرة، منعاً للتكرار والرتابة، بخلاف عروض قصصية تنام ليومين وتعود إليها، تحتكم أكثر إلى الزجليات والأغاني والتقليد. فجاء العرض في شكله معمارية تحد خيالي في الحركة والارتداد. فعل تواصلي، لا يمكن أن يعمل بمجرد وقوف صبية إلى جانب صبية أخرى، أو كعب إلى جانب كعب، أو يد إلى جانب يد، وإلا سقط في تصور آلي. هذا التصور الكوريغرافي حذفته الفرقة من كونه فقط لعبة حركة، أو ارتداداً بنظرة تنويع وأداء جماعي وبتبادلية فنية لا سبيل لحصرها. ارتدت المحكّمة صوفيا فيرغارا قلادة شجرة الأرز، التي لا يتورع اللبنانيون عن قطعها في شتاء قاس، والمهددة بالزوال بسبب التغير المناخي (نيويورك تايمز).

هو تجريب فني لترميم علاقة اللبنانيين مع المستقبل بلغة جميلة تحيل لبنان للعالم مجدداً.