حينما قارب دانتي ذاته

ثقافة 2023/01/11
...

جينا سلطان

تشخصن وتؤنث أسطورة فارسية ثالوث العشق الإلهي المتمثل بالجمال والحب والشوق، وتجعل منهن أخوات تعشن بسعادة داخل “كرة نور ذكاء الله”. وحين ترى جمال نفسها في مرآتها ذات برهة، تبتسم، فيولد آلاف الملائكة من تلك الابتسامة. أما حب التي كانت تعيش دوما القرب منها وفي خدمتها فتفزعها ابتسامتها وتهرب، ولأن شوق الصغرى تخشى البقاء وحيدة تتعلق بكتفها. ومن وقتها يعيش الشوق مع الحب ويرافقه في زيارة أنفس البشر وإشعالها بالرغبة والتوق إلى الجمال المفقود.

وبعيداً عن الخيال، الذي يزين الأوهام لضعاف النفوس، يبتعد الحب عن كونه مصادفة سعيدة أو هبة من القدر، ليتجلى في القلوب بوصفه فناً رفيعاً يتطلب من الإنسان سعيا إلى الكمال الذاتي، وإبداعا، وحرية داخلية.

ولأنه يجسد التمظهر الأرفع للطبيعة الاجتماعية الإنسانية، فإن اكتماله يتطلب روحا حية، بمعنى يقظة، ونكرانا للذات، واستعداد للفعل والقلق والاهتمام، الأمر الذي يجعله عملة نادرة في سوق الاستهلاك المؤطر بالتسليع العاطفي والجسدي والفكري.. ونظرا لكونه الأسلوب الوحيد لفهم “الآخر” في ماهيته الأعمق، والمقترن تاليا بإيقاظ الحب عنده، سواء في الأدب، أو في الفن، أو في الدين، أو في الفلسفة، فإنه يكتسب صفة الإلهام المحفز لعيش الحياة.

وهو ما اختزله إيريك فروم في كتابه “فن الحب” بـ”امتلاك العالم بفاعلية”، أي إدراك العالم من خلال الحب.

وبمناسبة مرور سبعمئة عام على ولادة دانتي صاحب “الجحيم”، يستلهم مواطنه “جوزيبه كونته” في روايته “دانتي في حب” ذكرى معراجه الأدبي نحو الفردوس قادما من الجحيم، ليعيد صلة الإنسان بتاريخه الحي المقترن بالحب الشمولي.

فيعري اللغة “المرقعة والمتوحشة والموغدة على الفيسبوك والتك توك..” كما يسميها، ويحاول اختراق تحجر العقول وقولبتها ضمن أنماط الخيالات العقيمة، في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، حيث يعيش الإنسان ضمن متاهة شاشات كبيرة تصدر ضوءاً أبيض فينقلب شبحا، يعيش بين صور ليس فيها جوهر ولا حقيقة.

وهو ما يفقده إحساسه بجسده، رغم أنه في الظاهر يعتني به ويكسوه بأحسن ما يستطيع، إذ لم يعد لديه دماغ خاص به، وبالتالي يفتقر إلى المشاعر والذكريات.

تهيئ هذه الهوة من الفراغ السقيم أمام “كونته” لاستنساخ شخصية دانتي كظل محكوم بالعودة إلى الأرض طوال سبعة قرون، وفي ليلة واحدة كل عام، توافق الشروع في كتابة “الجحيم”، بحيث تتحصل له رحلة معاكسة لخبراته السابقة، وتمهد له الطريق للبحث في ماهية الجمال والحب والشغف المقترنين به.

ولكونه شبحا بلا كيان مادي فإنه يعادل من حيث النتيجة الكائنات الفاقدة للجوهر، والمفتقرة إلى الإحساس بثقل الجسد بكل امتلائه وأوجه العيب فيه.

وبسبب اعتياد تلك الكائنات العيش على السطح، في حاضر بلا مادة، في ضوء صناعي بمعزل عن الشمس والقمر فإنها تجهل امتلاء النفس وحياة الحواس، وبالتالي لا تعرف إلا القليل عن الموت. 

الأمر الذي يتخلف عنه وعي التاريخ بصورة مجزأة، بحس الصور التي تضيفها كل ليلة تمر إلى فضولهم، والى رغبتهم في المعرفة، أسوة بدانتي نفسه الذي لازمه التوق للتماهي مع جمال الأجسام، حتى صار عبداً لها.

اقترن الهبوط الشبحي لدانتي بالتجرد من حاستي اللمس والذوق، أسوة بمدمني التواصل الاجتماعي الإلكتروني، وأُبقيت له نعمة النظر والسمع والشم، ليتشكل جحيمه وفقا لمكتسبات نفسه في قميصه الجسدي.

فأصبحت الرغبة بالنسبة إليه كظل إحساساً باضطراب يفور، بارتعاش، بتسام، ببلبلة عنيفة متأتية عن إدراك حاد بأن أي متعة لن تصل إلى الإشباع، بالنسبة لمن جعل الحب صنمه.

فكانت إرادته تنطلق نحو المارات في مكان تموضعه عند جدار القديس يوحنا المعمدان، بالقرب من الكاتدرائية، حيث ابتدأت محنته كرجل خالف برحمته القسوة المطبوعة في قلوب المتسربلين بلبوس الزيف اللاهوتي.

وهو ما يستلزم الوقوع في قبضة الرغبة، والوصول إلى تقديم اللذة وبلوغها.

لذلك يتجسد عقابه في الاستمرارية بين صعود الغواية والعجز عن إتمام التحقق أو الإشباع الفعلي؛ فـ”كل لذة تنشأ من الجسد، وتعيش فيه وتنطلق منه”. 

ومن هذا المنحى يتماهى ظل دانتي مع شخصية تنتالس في الأساطير اليونانية، والذي حكمت عليه الآلهة بأن يلامس تفاحة الشهوة مقيد اليدين، فلا يتمكن من قضمها أبدا، لتبقى شهوته مؤججة دونما إرواء.

يتحقق دانتي أثناء وجوده الشبحي من أمرين، يتمثل الأول في إدراكه بأن الانجذاب نحو الجمال الأنثوي مازال يتقدم في داخله كظل بنفس الشدة التي كانت وهو في ثوبه الجسدي عندما كان قادرا على التفكير والقيام بما يمليه الغرام.

أما الثاني فيرتبط بطبيعة الغربيين عموما والطليان خصوصا، والقائمة على رفض الإحسان وكراهية المحسنين إليهم، فيدرك تفسيرهم المبطن بالسوء لأفعال الخير، والذي يترجم بالاستياء، فيستوجب الإقدام على مساعدة الآخرين العقاب وتحمل المسؤولية.

بالمقابل، تصبح إدانة الشر المذموم في اللاهوت الديني مقتصرة على الشجب اللفظي السطحي، فيما تطفح القلوب بالإعجاب والحسد باعتباره برهانا على القوة؛ تلك القوة الجذابة والشنيعة التي تميز الشيطان وتهيمن على تاريخ البشر.

تتحقق النقلة النوعية في صيرورة دانتي حين يغرم بطالبة جامعية أمريكية تدعى غراتسيا، فتشتد رغبته في أن تحس بوجوده، ويلحقها مفارقا مكانه عند جدار المعمودية لأول مرة منذ سبعمئة عام.

وأثناء مرافقته لها يدرك جحيم مدينته فلورنسيا المسربل بسطوة البؤس فوق رقاب البشر.

ومن خلال الاستماع إلى قصة صديقتها لوشيا يتأكد أن الحب مازال بالنسبة لأكثر الناس؛ أكثرهم عماء، مصدر خداع وتعاسة.

فتولد تلك القصة عقدة في حلقه قوامها الألم والغضب، لعجزه عن فهم ماهية الرجل ـ الحبيب الذي يضرب امرأة ويرغب في قتلها، بعد أن يقنع بالحب غريزة عنف وإرادة تملك، وسيطرة مطلقة؛ “هدية ـ مذلة”، وبذلك يلوث الحب ويخونه.

أثناء قراءة رواية أو حتى كتاب فلسفي أو تاريخي تنشأ بين القارئ والمؤلف صداقة قد تلتبس بالحب أحيانا أو بالغضب والكراهية أحيانا أخرى.

لكن تلك العلاقة ستبقى أبدا محصورة ضمن ثلاث حواس: البصر والسمع والشم، لكونها ترتهن للخيال وتراهن عليه في بناء أسطورية اللقاء بين الطرفين، بينما تفتقد إلى اللمس والتذوق المكونين لماهية اللذة التي تتحقق بالتجسد.

لذلك يفرض “كونته” على دانتي معاينة ماهية التجلي في الحب المجرد من اللمس والذوق، بعد أن ظل طوال حياته متشردا في إمبراطورية الجمال وبالتالي عبدا لـ”حب”، الذي عرفته الفلسفة اليونانية بـ”إيروس”.

وبالمقابل يمر سريعا على الملاك الساقط آرييل الذي أراد اختبار الحياة في قميص بشري، فحكم عليه الإله بالنزول في إهاب متشرد إلى نهاية الأزمان ليعاين الملهاة الإلهية، لكونه مجردا بالأساس من خاصيتي الذوق واللمس، ما جعل منه شاهدا لا شهيدا.

لذلك تعطف عليه غريس (ويعني اسمها النعمة في اللغة الإنكليزية)، وتحاول حمايته من تنمر الرجال.

من جهة أخرى تفتن غريس بشخصية دانتي في كتابه الجحيم، وتقبل صورته المطبوعة على الغلاف، فتحيي رميم المتشرد العجوز الذي تواصل نزوله إلى الأرض طوال القرون كي يدرك الحب الصرف المجرد من الشهوة.

وبينما مهدت له حبيبته السابقة بياتريس الطريق من الجحيم الأرضي إلى الفردوس، عمدته غريس بالاكتفاء والتحقق، فيقارب ذاته من خلال شعور الغبطة، وتنتهي رحلته الطويلة من التقيد بوجود الآخر إلى التحرر من خلاله.

وتختزل تلك الفكرة باستيعاب دانتي لحقيقة أن الجمال الأنثوي لانهائي، فيستعيد للمرة الأخيرة مقولة الملك سليمان: “من هي تلك التي تشرق كالفجر، جميلة كالقمر، نقية كالشمس، ورهيبة مثل راية الجيوش». تتطلب ممارسة أي فن انضباطا وتنظيما شاملا للحياة الخاصة، إضافة إلى الصبر والتركيز الذي يقضي تعلم الانفراد بالذات ومحاسبتها. ومن هنا فالمقدرة على الحب تتعلق بالتحرر من النرجسية، ومن التعلق بالأم والقبيلة، وبالتالي فهي تتعلق بمقدرتنا على النمو، وتطوير توجه بنّاء في علاقاتنا مع العالم، ومع أنفسنا.

ويطلق “إريك فروم” على تحرر الإنسان من سجن العزلة الولادة واليقظة، ويقرنه شرطيا بالإيمان المتلازم بالشجاعة والإقدام على المجازفة، ثم يوسع الإيمان ليشمل تكامل الحب بطوريه الاجتماعي والفردي، باعتباره مدخلا عقلانيا يرتكز على إمكانية فهم طبيعة الإنسان ذاتها.