سانتا كلوز يعدل عن الاحتفال بأعياد الميلاد في ساحة التحرير

ثقافة 2023/01/11
...

 محمد جبير


لا يمكن أن يكون تشرين حدثاً عابراً في حياة العراقيين جميعاً، سواء اتفقوا أو اختلفوا في مخرجات هذا الفعل الشبابي المتجاوز لكل ما هو ساكن وخانع وتقليدي من أفعال التحدي والاستجابة للعنف واستلاب الحريات والحقوق الإنسانية في العيش الكريم، فإن ينتفض شباب بقلوب طاهرة بيضاء نقية محبة للوطن وبعمر الورد، لا يتجاوز بعضهم السابعة عشرة من عمره، وهو العمر الموازي للنظام الجديد الذي كان أمل الشباب الطامح في التغيير، وإسقاط الدكتاتورية والعيش في ظل نظام ديمقراطي يضمن العيش الكريم والأمان والرفاهية والسلام لهم ولعوائلهم مستقبلاً، لا أن يفتك بهم .

هؤلاء  الشباب هم أبناء النظام ونتاجه وهم الذين انتفضوا على الواقع السائد المرتدي لكل أردية الفشل باعتراف قادة التغيير أنفسهم، الذين أقروا بفشلهم في صناعة حياة كريمة لهذه الأجيال التي تفترش الأرصفة من أجل البحث عن فرصة عمل في بلد يعد من أغنى بلدان العالم، يعيش أكثر من 30بالمئة من شعبه تحت خط الفقر، وارتفعت به الأمية إلى مصاف هذا الرقم بعد أن كانت صفرا.

هذا الفعل الشبابي الذي أراد الكثيرون التقليل من أهميته وأطلقوا عليه مسمى “حراك”، هو فعل تغيير وتحول اجتماعي وثقافي وفكري، وبمعنى آخر هو فعل إيجابي في المجال الاجتماعي بصورة عامة، وإذا كان البعض يقصر اهتمامه على فعاليات الفعل في ساحات التظاهر فإنه على خطأ كبير، إذ هو خارج هذا الفضاء المحدود مكانياً والممتد على مساحة الوطن رؤية وخطاباً مؤثراً في الصغير والكبير الشيخ والشاب، فتية المدارس من البنين والبنات ومن الأطياف الثقافية والاجتماعية المختلفة.

وإذا كان هذا المتغير بالنسبة للشباب المنتفض عقيدة ورؤية وإيماناً باسترجاع وطن مسلوب، فإن بعض منظمات المجتمع المدني بمختلف مسمياتها التي تضامنت مع هذا الفعل، لا سيما بعد أن شهدت فعل المواجهة الشرس للشباب الأعزل المسالم وقوة تأثير هذا الفعل الذي هز أركان أحزاب السلطة، وجدت في وقوفها على الحياد صمتاً هو رفض لهذا الفعل وتماهٍ مع بطش السلطة من أجل البقاء، لذلك أمسكت العصا من الوسط، ووضعت قدماً في ساحة التحرير ونصبت خيمة، للدلالة على حضور المنظمة، لكنه حضور ساكن لا يغني المشاركة ولا يدفع الضرر عن الشباب الذي يقتل بدم بارد أمام أعينهم.

واجه الشباب الوحشية والشراسة بصدور عارية ليثبتوا للجميع أنهم أحرار يبحثون عن الحياة في وطن حر، لذلك اختلفت رؤاهم وتصوراتهم عن الآخر الذي لا يمكنه الانتماء لهذا التيار الجديد روحاً وفعلاً، ومن هذا المنطلق كانت الفعاليات التي تقام في داخل ساحة التحرير، هي فعاليات مغايرة ومختلفة عن الفعاليات الأخرى التي أقيمت في أماكن احتفالية تتزين بالبهرجة والألوان الخادعة التي تبهر العين وفي القاعات الواسعة والعريضة ذات الجدران الضخمة، كانت احتفالات الشباب قدسية رافدينية تقام في العراء تمتد إلى ذلك الجذر الأصيل للحضارات السومرية والبابلية، من حلقات الرقص والغناء والموسيقى ومعارض الفنون التشكيلية،  فضلاً عن الحلقات الخطابية التي تبغي إشاعة وعي تشريني تنويري.

انطلقت السرديات التشرينية من هذا المناخ، وسعت إلى إثبات وجودها في الفضاء الثقافي الراكد، إنه فعل التغيير الذي لم تقف عنده المؤسسة الثقافية بوجهيها الرسمي والشعبي وقفة تحليلية جادة، وإنما غضَّت الطرف، وتجاهلت المشروع الثقافي الجديد الذي يقوده الشباب، إذ لم تخصص له على سبيل المثال أصبوحة نقاشية أو حلقة نقاشية أو ندوة تدعو أطرافاً مشتركة لمناقشة هذا المتغير أو محوراً في مؤتمر السرد الأخير الذي تمت عنونته  بـ “هو الذي روى كل شيء”، بغية مناقشة هذا التحوّل الجديد في السردية العراقية الذي لم تروِه السردية العراقية بشكله الفاعل والإيجابي  بعد ، وهو الأمر الذي يدعونا إلى إعادة النظر بطبيعة وأهداف المشاركة لهذه المنظمات ووقوفها في ساحة التحرير، والتساؤل بصوت عال هل كانت وقفات هذه المنظمات للتضامن وإسناد أم وجاهة صورية لذر الرماد في العيون.

كتابان بين يدي كلاهما ينتميان للمشروع السردي الجديد، وهما من إصدار شباب متحمس وفاعل في التغير، الكتاب الأول “النسخة المكتومة من الثورة” وهو فكرة وإعداد “عبدالله المنصور وأيمن الجزائري- كريتوس-” بواقع “341” صفحة، أما الكتاب الثاني فهو “الكاتم” بـ “111” صفحة، لمؤلف لم يذكر اسمه على الغلاف، في المقابل هناك سرديات روائية وقصصية لكتاب لهم باع في الكتابة، مثل “جمجمة تشرين” للكاتب عبد الكريم العبيدي و”ستاريكس” للكاتب علي لفته سعيد وسبقهما الكاتب حسن فالح في “شوبان الصدرية” فضلاً عن قصص قصيرة لعدد من الكتاب أمثال ناهي العامري ورأفت عادل آخرهم قصة الكاتب كاظم الجماسي بعنوان “كتاب الأبرار” و التي نشرت في جريدة الصباح.

في الكتاب الأول، شارك في كتابته 33 كاتباً من شباب وشابات التغيير، جلهم أسماء جديدة لم يتعرف عليها المتلقي، وهذا الكتاب يحتاج وقفة جادة وفاحصة لطبيعة النصوص التي دونت بين غلافيه الأول والأخير، فإذا كان الغلاف الأول قد حمل عتبة الكتاب ومن قام بإعداده، فإنه حمل عتبة إشارية مقصودة “يوزع مجانا”، وبهذا يريد الشبان إيصال صوتهم إلى جمهور المتلقين الواسع، لكي يدركوا معنى التغيير من وجهة نظر شباب التغيير، أما الغلاف الأخير فإنه حمل عتبة الغلاف الأول ومعه اعتذار الشباب للمتلقي، هذا الاعتذار كشف الخطاب بوجهيه الشبابي والحكومي الذي تدركه العناصر الفعالة في مسيرة التغيير وقد لا يدركه المتلقي، إذ نصّ على “كل الأمور الخيالية التي سمعتها عن ثورتنا (كانت حقيقية!) والذي كتم منها.. كان أهول.. حاولنا إيصال الجزء المكتوم مما حصل ويحصل.. النسخة التي لم تروَ من قبل.. نعتذر عن بشاعة معظم ما كتبناه.. فلقد كان موجعاً علينا نحن أيضا”.

أخلع تبعيتك واقرأ:

مقدمتان حملهما كتاب “النسخة  المكتومة من الثورة”، الأولى كتبها أيمن الجزائري ونصت على “ما كتب في هذا الكتاب.. محاولة يائسة لإيقاظ بقايا إنسانيتكم! كلمات، خارجة من أرواح نقية، وعقول حرة . لذا.. عزيزي القارئ رجاءً.. اخلع تبعيتك .. ثم اقرأ.. غير ذلك.. عبث ما ستقرأه!”. ص7

أما مقدمة عبدالله منصور فهذا نصها “أيها العراق المكلوم جريحاً يا ترى كيف تتنفس؟ وجاءني الرد خفياً (هواء وطن) ثم ( مظلوماً أو شهيدا)”. ص9 .

ما الذي يمكن أن نخرج به من نص الغلاف الأخير ونصي المقدمة من إشارات دلالية عن هذا الكتاب الذي يدوِّن جانباً من السرديات التشرينية، لاسيما إذا ما تمت قراءتها مع الصفحة الأخيرة التي لم تحمل رقمها الخاص في الكتاب، التي أشارت إلى “ثورتنا ما زالت مستمرة... كتابنا انطلق من (هنا)، إلى أين سيصل؟ أخبرونا...”. ووضعت أسفل هذه العبارة عدة خطوط لأسطر يراد من المتلقي أن يدوِّن حكايته مع الحكايات الواردة في الكتاب، فلكل متلق حكاية.

فقد أكدت كلمة الغلاف على مرويات حكائية خارج هذا الكتاب، وهي مرويات قد لا تنتمي لروح التغيير الشبابي وإنما مسعى من الآخر الذي يريد تشويه الصورة أو حرفها عن المسار الصحيح، لكن الشباب لا ينكرون صدقية تلك المرويات الشفاهية، فقد جمعت ساحة التحرير الكثير من الخيام التي حملت مسميات ثورية وتوسلت الغد المشرق، وهذا ظاهر الخيمة وباطنها مختلف حيث يحمل أيدولوجيات مختلفة مع أيدلوجية الشباب أو متقاطعة أو متضادة، فهذه الخيام تكاد أن تكون أشبه بالخنادق المتضادة، ومن هذا التضاد تنطلق المرويات المتضادة.

من هذا المنطلق، جاء التأكيد في نص المقدمة الأولى على خلع التبعية قبل الشروع في قراءة النصوص التي كتبها شباب التغيير وصناع التحول الجديد في المشروع الريؤي، إن نداء “إلغاء التبعية” لم يأت اعتباطاً وإنما عن دراية في التعدديات الآيدولوجية والحزبية 

والمذهبية.

إذ تلك القراءات، هي قراءات منحازة وظالمة أن لم تكن متطرفة وعدوانية ورافضة لهذا المنجز السردي، فيما أكدت المقدمة الثانية أو بالأحرى الكلمة الاستهلالية الثانية على “مظلوماً وشهيداً”، وهي بمثابة مدخل افتتاحي للنص الأول “أحياء وإنْ قتلوا”، وهو بمثابة حوارية سردية بين الشهيد صفاء السراي وحسين مدني، الذي تقدم على نصوص الكتاب كلها، إذ جاء جامعاً لشهداء تشرين في جولة لقاء استعراضي في عليين، وهو في توثيقه لوحة أسماء الشهداء لا يختلف عن المدونة البصرية التي رفعت في ساحة التحرير وهي تحمل صور الشهداء من شباب انتفاضة تشرين، وهي أيضاً امتداد جمالي للشكل الذي جسد فيه الروائي حسن فالح فاجعة كنسية الكرادة في روايته “كاميرات وملائكة» .

في النص الثاني “هدايا عيد الميلاد” تسرد فيه على قصره بعضاً من الحكايات المأساوية التي تتعرض لها الطفولة في العراق، ففي الوقت الذي قرر فيه البابا عدم الاحتفال بأعياد الميلاد جرَّاء ما يحدث في العراق، إلا أن السانت كلوز أقنعه بالعدول عن هذا القرار والذهاب إلى “دار السلام”، لذلك يقرر الأصحاب “يا سانتا دعنا نتحدث قليلاً بعيداً عن البابا، لقد سمعت عما يحدث في العراق، وجهَّزنا الهدايا لكن داخل تلك الهدايا لا توجد ألعاب في داخل تلك الهدايا واقيات للغاز المسيل وقفازات حرارية وواقيات للرأس، كي تحمي الأطفال، لكن لا تخبر البابا”. “ص14» .

دونت تفاصيل وجع الطفولة في عراق السلام بين هذه البداية ونهاية النص التي أشارت إلى “في طريق عودتهم، وبالتحديد فوق ساحة التحرير، كان هناك اطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع والطلق الحي، وتمت إصابة مزلاجات السانتا كلوز وقد استشهدوا جميعهم، البابا والسانتا كلوز والأيائل”.”ص16”.