سلفادور دالي.. مريم العذراء في غوادالوبي

ثقافة 2023/01/11
...

ترجمة: رامية منصور

تميّزت الفترة الإبداعية المتأخرة لسلفادور دالي بمسحة من التصوّف لم تكن معهودة في أعماله الفنية السابقة، والتي أطلق عليها النقاد اسم الفترة الكونية ومنهم من سمّاها بالفترة الذرّية. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وما خلّفته من آثار مدمّرة على العالم خصوصًا تلك الاضطرابات التي هزّت الكيان البشري نتيجة جريمة هيروشيما وناغازاكي، تحوّل دالي إلى الكاثوليكية وحتى التقى البابا بيوس بابا الفاتيكان آنذاك. في وقت من الأوقات نسب دالي لنفسه أكثر من مرة الطبيعة الإلهية، معلنًا بعيدًا عن أي تواضع لم يجد من داعٍ له: « أنا، دالي، أعلن أنَّ كل الكون من خلقي، وأنا موجود في روح كل الأشياء».

تزوّج دالي من غالا, محبوبته وملهمته, في احتفال مدني عام 1934 بعد أن عاشا معًا لعدة سنوات منذ عام 1929.

كانت هيلينا ديمتريفنا, اسم غالا الحقيقي, شخصية لا تقل غرابة عن سلفادور دالي.

فهي إلى جانب أنها كانت زوجة الشاعر بول إيلوار, كانت عشيقة عدد من فناني ورواد السوريالية مثل رينيه شار، كريفييل، مارك ارنست واندريه برتون.

كان دالي يسميها، في مذكراته، إيلينا ترويانسكايا الهادئة، وسانت إيلينا وجالا جالاتيا، المرأة الأسطورية الوحيدة في عصره، التي احتلت مكانة مركزية في حياته كما في أعماله.

لم يكن من المستغرب أن يصورها دالي مرارًا وتكرارًا في شكل العذراء في أعماله مثل لوحات مادونا من بورت ليجات وعذراء غوادالوبي.

قام سلفادور دالي برسم لوحة عذراء غوادالوبي الكبيرة في العام 1959، بدقة شديدة لدرجة أنها تشبه تحفة فنية تم إنشاؤها في مرسم مايكل أنجلو أو ليوناردو دافنشي أو رافائيل, منجزًا كل التفاصيل الصغيرة بواقعية رائعة، مما يعطي إحساسًا فوتوغرافيًا بالتكوين بشكل عام والعذراء, وهي كانت غالا في الواقع, على وجه الخصوص.

تقول الرواية الدينية الكاثوليكية إنه في يوم من الأيام، جاءت للفلاح المكسيكي خوان دييغو في عالم الرؤيا, المختلط بالواقع, امرأة شابة, يفترض أنها مريم العذراء, بينما كان على تل في الصحراء بالقرب من مكسيكو سيتي, وطلبت منه أن يبني كنيسة في ذلك المكان.

سارع دييغو لإخبار الأسقف المحلي عن هذا الحدث, وطالب الأخير دييغو بتقديم دليل على ما رآه.

لم يكن أمام الفلاح خيار سوى العودة إلى تلك البقعة في الصحراء على أمل لقاء العذراء مرة ثانية.

وهذا ما حدث.

أخبرها عن طلب الأسقف ، فأجابته قائلة: “عد إليه بهذه الورود، وستكون هي الدليل”.

قطع الفلاح خوان عدة ورود ولفها في معطفه وعاد. 

حين فتحه أمام الأسقف كانت المفاجأة.

لقد وجد بدلاً من الورود تلك صورة مريم العذراء. 

لهذا السبب نجد عباءة مريم العذراء بمنحنياتها الأربعة وقد طرّز دالي عليها الورود، كما نرى ورودًا كبيرة تخرج نابتة من سفح العباءة الصاعد إلى مريم الأم وطفلها المسيح وتدور حوله في حركة حجّ تعبّدية, ثم نصل إلى قمة بنائية اللوحة لنرى خلف رأس مريم العذراء القلب الحامل لبذور زهرة عباد الشمس، وحين نتمعّن فيها يمكننا ملاحظة الأحجار الكريمة الحمراء والخضراء التي تشكل التاج الذي يتربّع فوق رأس السيدة العذراء, التي كما سبق وذكرنا تمثّلها غالا.

كنيسة سيدة غوادالوبي في المكسيك صارت بعد تلك القصة ثاني أكثر ضريح كاثوليكي يزار في العالم. 

وأصبحت عذراء غوادالوبي أيضًا رمزًا للأمة المكسيكية منذ حرب الاستقلال المكسيكية.

وقد زحفت كل من جيوش ميغيل هيدالغو وإيمليانو زاباتا ونائب القائد ماركوس كلها تحت رايات تحمل صورة العذراء.

تكشف اللوحة عن معنى مصطلح “استمرارية دالان”- تكرار الفكرة أو المعمار التكويني أو الشخصية المحورية عمدًا في لوحات مختلفة لسلفادور دالي.

لذلك نرى في الأسفل زهرة الياسمين موضوعة في دورق زجاجي على شكل دمعة وفي الخلفية سحابة ذرية متفاقمة تسيطر على الفضاء, فيما يتصاعد على جانبيها صفّان من الملائكة.

يمكن رؤية نفس صورة الياسمين, وهو رمز النقاء والطهارة, الموجودة أمام خلفية الغيوم الذرية تتكرّر في لوحة “سانتياغو إل غراندي” من العام 1957.

فيما تختفي من الإناء كأنما تركت “العشاء الأخير” في لوحة العام 1955.