في الأدب المقارن: قصيدتا {المومس العمياء} و{الشتاء}

ثقافة 2023/01/14
...

 كامل داود 

يشكل الأدب المقارن رافدا مهما من روافد الثقافة الإنسانية الحيَّة، لما له من يد طولى في إدامة التواصل وتبادل التجارب بين الشعوب والأمم، لكننا نرى الأمر مختلفا في الثقافة العربية المعاصرة، فإنّ هذا الجنس الأدبي يكاد أن يكون مقتصراً على بعض المحاولات المتواضعة هنا أو هناك، بما يرسم صورة واضحة للتردي الممتد لعقود عدة في هذا المضمار.

وبقدر تعلق الأمر بالأدب الفارسي، فإنّ الدراسات المقارنة لم تتناوله بمستوى العراقة التي يتمتع بها بين الآداب العالمية الأخرى، وبمستوى قربه من المزاج الثقافي العربي، ولعل مرد ذلك يعود إلى تغلب العامل السياسي على العامل الثقافي في هذه المناطق التي عانت الكثير من ويلات القهر والاستبداد والحروب، ولم يشفع في ذلك الجوار الجغرافي والتداخل التاريخي بين الشعوب وحضارتها.

ومن جانب آخر فإنّ الظروف العامة المتشابهة والتراكم الثقافي المشترك لا بدَّ لها من التأثير على المنتج الثقافي بشكل او بآخر، ولا يمكن الإفلات من العامل الموضوعي إطلاقا في حياة الشعوب والأمم، فنظرة خاطفة على المخرجات الثقافية الفارسية والعراقية تؤكد ما نذهب إليه، ويتضح ذلك في الأدب بكل فروعه، لكون الأدب الصورة الصادقة للحياة، وهو الأكثر مساسا بحياة الأفراد والجماعات البشريّة، وهذه حقيقة يلمسها مثقفو كل أمة من الأمم، أما عبور الثقافة للحدود المتاخمة فيتطلب (جواز سفر) قوامه فن آخر هو فن الترجمة بكل معاييره الجمالية المعروفة، وهذه مشكلة رديفة في الدراسات المقارنة.

لا نريد القول أن هنالك قطيعة تامة بين الأدب الفارسي والعربي، ولكن المتوفر من المعرفة والإطلاع ليس بمستوى حميمية الجوار الجغرافي والتاريخي، صحيح أن الفردوسي أو الخيام وسعدي وحافظ من القدامى وسبهري وفروغ وصادق هدايت من المحدثين، أدباء تتداول اسماؤهم في الثقافة العربية، ولكن شاعرا بمستوى (مهدي إخوان ثالث) لا يعرف - وعند القليل من العرب - إلّا بقصيدته (زمستان) الشتاء، المنشورة على الانترنيت بترجمة علي ياسين عبيدات، وهي من القصائد المشهورة في إيران، وقد تكون هي القصيدة التي ألقت بين يديه صولجان الزعامة الأدبية في فترة يشاطره فيها شعراء فحول، مثل نيما يوشيج وسبهري وشهريار، والغريب عند قراءة قصيدة الشتاء تحس أنّك تقرأ شعرا عربيا خالصا وتحديدا كأنها من قصائد بدر شاكر السياب، ومن السهولة بمكان أن تجد المشتركات الأدبية والجمالية بين قصيدة الشتاء، والمومس العمياء، لو استثنينا طول النفس الشعري في القصيدتين اللتين كتبتا في وقت متقارب حد التطابق، فقد كتب السياب قصيدة المومس العمياء عام 1954 ونشر مهدي إخوان ثالث قصيدة الشتاء 1956، فإذا تشابهت المقدمات تشابهت النتائج كما يقول المناطقة، الشاعران من جيل واحد فالسياب تولد 1926، ومهدي أخوان ثالث 1928، وكلاهما من الطبقة الوسطى، بدءا تجربتهما باستعمال القوالب الشعرية الكلاسيكية، ثم اتجها صوب القصيدة الحديثة كرائدين، خاضا مغامرة التجديد الشعري بشجاعة ونجاح مبهر، اشتغلا في ميدان التعليم ولهما نشاط سياسي يساري متشابه اعتقلا بسببه عدة مرات، وعاشا تجربة مرة في الهجرة، التي اختلفا فيها حيث عاد مهدي اخوان ثالث ليدفن قرب الفردوسي (1990) وجيئ منها بالسياب محمولا على نعش الى مقبرة الحسن البصري (1964).

إن حياة الشاعرين تشي بانغماسهما في حراك اجتماعي وسياسي الى مستوى نموذج غرامشي في صياغته لمفهوم المثقف العضوي، ولو أسلمنا أن القصيدتين (المومس العمياء والشتاء) تحدد أجواءهما مكونات نفسية واجتماعية، وأن الإبهار يستدعي خبرة ودراية بالحياة وخيالا يمتلك المقدرة على ضم عناصر مختلفة في لوحة واحدة شائقة وممتعة، فلا غرابة أن نجد الصور الشعرية عندهما تقدم معنى إنسانيا عاما، وإن كانت بإطار ذاتي، بل تنبهنا إلى ما هو مختبئ، وتدهشنا في الكشف عن المثير في الحدث اليومي الروتيني المفعم بالعوالم الموحشة والقفر الإنساني المعتم. لقد جاءت قصيدة السياب "المومس العمياء" على صورة ضحية مركّبة (جندرية سياسية)، لتبلور إزاحة لمأساة شعب، فتاة قروية يُقتل أبوها من قبل إقطاعي، فتفقد معيلها في العيش، وتستدرج للسقوط، بسبب جمالها ويتمها، والسياب لا يريد في هذه القصيدة أن يستدر تعاطف القراء بقدر كشفه شقاء الإنسان وعذاباته الأزليّة، أراد ان يفضح الظلم والبناء الاجتماعي المتهالك، التفاوت الكبير في توزيع الثروة والسلطة، هكذا يولد الشقاء ويتناسل بين الناس، من هنا ينطلق السياب بفيضه الشعري يرسم مشهد الحياة العراقية البائسة، مستدعيا نبضات الوجدان البشري بخصوبته ونفسه الشعري الطويل، يستعير ظلام الليل ووحشته للدلالة على البؤس المهيمن على الواقع العراقي وتداعيات قمع الانتفاضات العراقية التي كانت آخرها انتفاضة 1952 وتنمّر السلطة واشتداد قبضتها على أنفاس الشعب العراقي:

الليل يُطبق مرّة أخرى، فتشربه المدينه

والعابرون، إلى القرارة.. مثل أغنية حزينه

وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق،

كعيون "ميدوزا"، تحجّر كل قلب بالضغينة

أي مدينة حزينة هذه؟ وأي حزن ثقيل؟ يحاصرها الليل ويغلق عليها كل منافذ الإفلات من عتمته والذاهبون إلى القرارة "المبغى" مثل لحن مثقل بالحزن، والمصابيح كئيبة خافتة كأنها ازهار شجرة الدفلة وهي من "الأشجار السامة" مرة المذاق بجمال خادع، أو مثل عيون ميدوزا التي تحيل من ينظر اليها إلى حجر (أسطورة اغريقية) فكان الليل يحمل قساوة تجهض الرحمة في القلوب وقد تشربت به المدينة ونفوس المارة. إذن هو واقع اجتماعي مرير، صنعته عوامل القهر والطغيان، وسوء الحظوظ في الثروة والسلطة، وهو لا يختلف كثيراً عمّا يعيشه جارهم الشرقي، فالفترة نفسها شهدت إخماد حركة مصدق الوطنية، وإفشال مشروع تأميم النفط الايراني، والانقلاب الدموي الذي أعاد السلطة البهلوية بشراسة واستفحال جهاز السافاك المرعب في مطاردة واعتقال الوطنيين، لقد صب "مهدي اخوان ثالث" تلك الأجواء السياسية المكفهرة، بقصيدة الشتاء، مستعيرا الشتاء الايراني القاسي، بدلالة نفسية تفضي للكشف عن معاناة الإنسان من النظام السياسي القمعي، الذي أدخل المجتمع الايراني في لجة من اليأس والخوف، وبدل الليل (السيّابي) جاء الشتاء عند مهدي اخوان ثالث، ليمسك بزمام الاستعارة عن أزمة الإنسان المحبط والمقهور:

إنه الشتاء..

لا يرفعُ أحدُهم رأسه ليرُد التّحية وليُلاقي الأحِبةْ

ولا يسعهُ أن ينظر إلا لِموضِع قدمهْ

فالطريقُ مُظلِمٌ ومُنزلق..

المدينة واحدة عند الشاعرين، فإن يكن شتاء مهدي اخوان ثالث، أحالها طرقاً مظلمة زلقة، فإن مدينة السياب ما هي إلا خفّاش أعمى، امتصت ظلمة الليل وتمكن منها وأطبق عليها بالوجوم والحزن الثقيل، بهذا اللون المعتم وسم السياب ملحمته، وأسهب بالاستعارات والصور الشعرية، التي تنقل القارئ إلى التعاطف الإيجابي مع مومس عمياء، شكلت صورة مصغّرة للظلم والقهر الذي يرزح تحته العراق:

عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة،

والليل زاد لها عماها

وهي الأجواء النفسيَّة التي رسمها السياب عينها عند "مهدي اخوان ثالث" بل أضاف لها بعداً آخر،  فهو شتاء قارس والطريق مظلمة وزلقة (والعابرون) منشغلون بأنفسهم، بل يتحاشون ردَّ التحية عليه، فهو بنظرهم يشكل خطرا فقد كان حديث العهد بالسجن وعيون السافاك تترصد:

لا يرُدُّون عليك التحية

الجو كئيب، الأبواب موصدة، الرؤوس مطأطئة، الأيادي متوارية

الأنفاس كالغيم، والقلوب مُتعبةٌ وبائسة،

الأشجار هياكل بلوريَّةٌ مرصوفة،

والأرض ميتةُ القلبِ، وسقف السماء قريبٌ من الأرض،

والغبار يُكلّلُ الشمس والقمر..

إنّه الشتاء..

فشتاء مهدي اخوان ثالث هو ليل السياب البهيم، كغابة تجول فيها الضواري وتنعب الغربان فوق أشجارها الملتفة على الوحشة والخواء:

من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف

من أي وجر للذئاب؟

من أي عش في المقابر دفَّ أسفع كالغراب

أما عند "ثالث" فقد هيمنت اللامبالاة على الناس في المدينة، وأغدق عليهم الشتاء القاسي بقبح الجفاء، فلا مصافحة ولا تحية حتى، فوراء الأكمة ما وراءها:

إن مددت يدَّ التّرحابِ لأحدِهمْ

لأخرِج يده مِنْ مِعطّفِهِ مكْرّهاً

فالبردُ قارسٌ وفي منتهى الشِدَّةْ...

النفسُ الخارجُ من أعماق الصدر كسحابةٍ سوادء

يقفُ كجدارٍ قُبالةَ عينيك

النفسُ على هذا الحال، فماذا ترجو من قريب أو بعيد..!

إلى هذا الحد بلغ التخوف من الرقيب، و(العابرون) يتملكهم الحذر من السقوط في منزلق الريبة واستجواب الشرطة السرية، وبطون المعتقلات، وأن أحسنّا بهم الظن فهم مشغولون بمصالحهم وكسب عيشهم، ونكاد نجد الصورة نفسها عند السياب، رجال متعبون أخذ منهم الخوف مأخذا، وأنهكت الظنون إنسانيتهم، وأفقدهم الشك بالآخرين طعم التواصل، فغرقوا في خيال ذاتي للبحث عن المتع الرخيصة الواهمة عند ضحايا مثلهم:

والعابرون

الأضلع المتقوسات على المخاوف والظنون

والأعين التعبى تفتش عن خيال في سواها

وتتضح معالم تلك الاستعارة المشتركة في هذا المقطع الذي ينقل به "ثالث" هواجسه عندما يحل ضيفا على صديقه (المسيحي) عله يجد عنده ما يؤنس وحشته التي تشربت بها روحه الوثابة:

قنديل السماء حيٌ أم ميتٌ (منيرٌ أم مُنطفئ)؟

فهو ملتحفٌ بنعش الظلام الكبير والداجي والمتشحُ بالموت.

يا نديمي!

أشعِل قنديل الشراب فالليل والنهار سيان..

يخاطب نديمه أن ليس هنالك ملاذ من هذا البؤس والحزن الثقيل غير الارتماء بين احضان الكأس، فالجميع ضحايا لسياسة الاختناق، وتكميم الافواه الحرة ونهب خيرات الشعوب، أما المومس العمياء فهي تشتري زيت الاضاءة في بلد يعوم على بحيرة من النفط، من غير أن ترى نوره، ولكن كي يراها ضحايا آخرون، يبحثون عن متنفس عابر لمآسيهم المزمنة، فالظلم يعم الجميع، لكن السياب التقط منه الجانب الذي يبعث الشفقة في نفس القارئ، وهي ليست شفقة الاستكانة والخنوع، وإنما تلك التي تحرك الوعي، وتترك التساؤلات الكبرى عن الحلول لإزاحة هذا الظلم:

ويح العراق! أكان عدلاً فيه أنك تدفعين

سهاد مقلتك الضريرة

ثمناً لملء يديك زيتاً من منابعه الغزيرة؟

كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟ 

فالشاعران قد نجحا في توثيق معاناة شعبيهما، فقد كتب "مهدي اخوان ثالث" قصيدة الشتاء (زمستان) في ايران بعد الانقلاب الذي دبرته الدوائر الغربية ضد مصدق (انقلاب 28 مرداد 1332) 1953،  وكتب السياب ملحمته المطولة "المومس العمياء" في العراق بعد اخماد انتفاضة 1952 ووقوع البلدين في دائرة الظلام القمعية، والهيمنة الغربية الاستعمارية، حيث تحطمت إرادة الشعبين أمام جبروت الطغاة، وتشكل حلف بغداد سيئ الصيت عام 1957 بزعامة بريطانيا وكان من مؤسسيه الاربعة إيران الشاهنشاهية والمملكة العراقية.