حدود المنهج اللغوي

ثقافة 2023/01/15
...

 د. حسام جليل 

 

الحديث عن اللغة من حيث دراستها بشكل دقيق يؤرّق الباحث المبتدئ ولا سيما في دراسة الماجستير؛ كونه في بداية طريق المعرفة ولا يفرق بين حدود بحثه وإجراءاته، فضلاً عن التفريق بين العلوم المتفرعة عن اختصاصه العام إﻻ بفضل أساتيذه الذين يصوّبون طريقه عند ميلانه إلى أية جهة في خارج سياق المنهج.

ويبدو لي أن ضبط حدود المنهج تتضح في دراسة الدكتوراه وما بعدها؛ لأن خيط التفريق بدا واضحاً لدى الباحثين، فقد عرفوا المنهج بمعناه اللغوي والاصطلاحي ليكون بيانا ثابتا يسلكه الجميع من دون تردد أو خوف مع بدارهم إلى تحديثه لا توريثه ليضيع وجهه الحسن بين الوارثين تحت سطوة الرغبات وتنوعها.

والمنهج اللغوي من ضمن المناهج التي تلاقفتها أيدي الوراثة فبات التطور بوصفة مزية الحاضر يحشر نفسه في منظومة هذا المنهج فيحاول جاهدا أن يميّع وجوده بدلا من السعي إلى تحديث إجراءاته؛ كسماعنا من محاولة بعض البائسين كفّ الباحث عن الكتابة في القرآن الكريم - مع حتمية التشبيه الفارق- بسبب ادعائهم أنه استهلك بحثيا!! لذا يحاولون أن يقللوا من قيمة المنهج كونه يعتمد على مستويات تحليل معروفة ذكرها الكثير من الباحثين كالدكتور نعمة العزاوي والدكتور علي زوين وغيرهم؛ ثم يحشرون أنف المناهج الغربية في دائرته لتتلاشى الحدود وتتغير شواخص البداية والنهاية وينقطع خيط التفريق بين المناهج تحت سطوة ادعاء التطور والحداثة.

سيتهمني البعض الآن بأنني أميل إلى كلاسيكية المنهج وادعائي التحديث فيه غير منطقي البتة؛ أقول إن: الأمر ليس كذلك مطلقا، نحن بحاجة ماسة إلى تطوير المناهج في العلوم كافة، ولا سيما اللغة العربية بشريطة عدم ضياع حدود المنهج الدقيق. أتذكر في أحد حروب محاضراتنا المشتعلة بالنقاش في دراسة الماجستير مرّ علينا موضوع الأسلوبية وتطبيقاتها وهي من ضمن مناهج الدراسة (الأدبية) الحديثة، فحينما اطلعت على تطبيقاتها ومستوياتها في الرسائل والأطاريح تبيّن لي أنها اعتمدت مستويات البحث اللغوي نفسها! ممّا جعلني أقول لأستاذي أن أغلب المناهج الأدبية الحديثة هي عيال على المنهج اللغوي؛ كونها لم تأتِ بشيء جديد إجرائيا؛ بل خلطت اللغة بالأدب وضاعت هيبة الاختصاص الدقيق.. هذا مثال لمصطلح واحد ونرى أمثلة متنوعة كهذا، ولا سيما في اللسانيات الحديثة التي سلكت طريق الحداثة مع تغييب حدود المنهج الحقيق؛ إذ نجد أن المتخصص في اللغة يكتب في الدراسات اللسانية ونرى الأمر نفسه لدى المتخصص في الأدب! على الرغم من أن بعض الدراسات اللسانية لو أنعمنا النظر في تطبيقاتها لاستطعنا أن نجعلها في ضمن منهج اللغة أو الأدب بدلاً من هذه الضبابية في انتمائها.

ويبدو أن المشكلة في ادعاء الابتداع المصطلحي والهروب من المناهج مع فيض الوارد منها وليّ عنقه لإمكان تطبيقه على اللغة العربية؛ هنا تكمن العلة الحقيقية؛ فقد نرى عشرات المصطلحات لمفهوم واحد وحينما نبحث عن أصله ومدى قبول هذه المصطلحات سنجد أن العربية تحمل أصولاً له، ويمكن أن يكون جزءا من البحث اللغوي أو الأدبي مع حفظ ماء وجه حدود المناهج وابتداع إجراءات تليق بالعربية لا إجراءات مستوردة تحرج الباحث وتضيع هيبة التخصص وتفقد حدود المنهج.

فلا بدَّ من أن نرسم حدوداً واضحة للمنهج اللغوي من حيث تمحيص المناهج المستوردة وإنعام النظر في ما تم ابتداعه من مصطلحات حديثة ومطالبة أهلها بحدودها وإجراءاتها لننتهي من تداخل المناهج مرة وضياع الحدود مرة أخرى، مع إيماننا الراسخ بوجوب التداخل بين المنهج اللغوي والأدبي لكنّ ذلك التداخل لا يكون على حساب ظلمة التخصص بل لإفادته حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود من المنهج الرصين الذي نسعى جميعا إلى الحفاظ عليه بدلا من السعي إلى ضياعه.