الاستعارات في {حياة البالغين الكاذبة}

ثقافة 2023/01/16
...

 ساطع راجي

العلم الإيطالي الممزق والقذر الذي يظهر في اللقطة الاخيرة من مسلسل (حياة البالغين الكاذبة)، يدفع المتلقي إلى إعادة لملمة الاحداث للخروج بتأويل سياسي هو جوهر هذا العمل الدرامي، الذي أنتجته "نتفليكس" وعرضته في (2023) عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الايطالية إيلينا فيرانتي..
 ورغم أن السياسة كانت حاضرة دائمة خلال أحداث المسلسل، إلا أنها بدت ثانوية مقارنة بالأحداث المحورية لهذه الدراما الايطالية، التي تجري أحداثها بداية التسعينيات، حتى يصل المشاهد إلى اللقطة الأخيرة التي تعيد انتاج المعنى.

تروي أحداث المسلسل من وجهة نظر فتاة مراهقة الحياة الاجتماعية الايطالية، التي تظهر وكأن الخيانة محورها الاساسي، خيانة الأزواج، الأصدقاء، الأخوة، الآباء والابناء، الخيانة تسيطر على كل العلاقات، لكنَّ هناك في الخلفية الخيانة الكبرى وهي الخيانة السياسية العقائدية، فالصراع السطحي بين الشيوعيين والدينيين يخفي خيانة كل طرف لمبادئه والتناقضات التي يعيشها، فالطبقة الوسطى التي تعيش حياة برجوازية وتركض وراء الترف والثروة تصرُّ على قيادة التيار الشيوعي، وتمضي وقتها في التظاهرات الفنية، خاصة الأفلام والحفلات الموسيقية والأناشيد والجدالات والولائم، في المقابل يتجه الفقراء وأبناء الضواحي والأقاليم المعدمة اقتصاديا نحو الدين، لكن القادة الدينيين لا يختلفون كثيرا عن نظرائهم الشيوعيين، فهم أيضا يعيشون حياة تخالف العقيدة التي يعلنون تبنيها، لتكون خيانة العقيدة السياسية عمليا هي الاستعارة الكبرى للعمل الدرامي.

يقدم المسلسل في حلقاته الست، وتمثل كل حلقة قسماً له عنوانه الخاص، حزمة جمالية متماسكة ابتداء من الموسيقى والاغاني السياسية واستعادة المناخ الاجتماعي للمرحلة، التي يتعامل معها في الأزياء والديكور والطبيعة والتقنيات بكثافة رغم تحركه في عدة أماكن داخل مدينة نابولي الايطالية وتوفير مستوى عالٍ من الاقناع البصري في تقديم معادلات صورية تناسب الحوارات العميقة والسريعة، فالحديث عن الفقر والإهمال في الضواحي يتزامن مع عرض لحياة تلك المناطق، ورغم الحديث الكثير عن الجنس لكن المسلسل لم يعرض مشاهد مبتذلة.

تعامل المسلسل برهافة مع كل المواضيع الكثيرة التي تناولها، الدين والجنس والخيانة والسياسة والعنف والفقر، وفي أعنف الأزمات كان أداء الممثلين سهلا يخلو من التوتر والتشنج، وكأنه يوصل رسالة إلى المتلقي بأن الشخصيات تخون نفسها والآخرين حتى في المواقف الحاسمة، لذلك لا شيء حتمياً، ويبقى المتلقى أمام إداء وصور معبرة ومحملة بالايحاءات التي لا يفضحها أحد، إنها السياسة الخائنة مرة أخرى، هي التي تترك الاشياء معلقة بلا تفسير ولا حسم ولا خواتم، وكل الخلافات قابلة للمداراة والتساهل والسكوت عنها لإبقاء الحال على ما هو عليه في رثاء طويل للعقائد الاجتماعية.

المسلسل يشبه إيلينا فيرانتي كاتبة الرواية، والتي لديها روايات أخرى تحولت إلى مسلسلات، فالكاتبة لا أحد يعرفها وهي مجرد اسم مستعار يظهر على أعمال أدبية جميلة دفعت الأكاديميين لإجراء دراسات إسلوبية لاكتشاف الشخصية الحقيقية للكاتبة أو الكاتب، وفي الرواية بالاضافة إلى المراهقة التي تمثل الشخصية المحورية، توجد طفلة أصغر سناً حياتها أكثر غموضا، وارتباكا وتتلصص على الآخرين وتسعى لتكون كاتبة، وهكذا يضعنا السيناريو أمام شخصية واحدة في ثلاث مراحل عمرية (العمة تقارب الخمسين، وابنة أخيها في الـ16، والصديقة الطفلة) تجتمع لتكون الشخصية البطلة، التي يبدو أن المرأة الناضجة هي ختام تطورها لتكون متدينة معادية لأخيها الشيوعي، وفي الوقت نفسه تحتفظ بنزق الشخصية المراهقة (إبنة أخيها الشيوعي) والعفوية الطفولية (صديقة ابن الاخ)، وهو بناء معقد للظهور المتزامن للشخصية وكأن النضج وتأثير التجارب وهمٌ، فكل شيء يبقى كامناً في الانسان نفسه، وربما لهذا يخالف سلوكه ما يعلنه أو يتبناه من معتقدات ويرتكب الخيانات كلما توفرت الفرصة.

في هذا المسلسل تقدم جيوردانا مارينجو ظهورا مثيرا للإعجاب بدور الفتاة المراهقة، رغم أنه ظهورها الاول على الشاشة، وهي شخصية العمل الرئيسة، التي تعيش قلق المراهقة واعتقادها بأنها قبيحة، ومللها من حياة أبويها الأكاديميين الشيوعيين، وتتأثر المراهقة بعمتها الغامضة فيتوريا (الممثلة فاليريا غولينو)، وهي امرأة فقيرة كادحة وبلا حياة أسرية، لكنها متدينة ربما فقط عنادا بشقيقها.

يوفر العمل متعة بصرية للمشاهد سواء عبر التصوير المتقن للمناظر الطبيعية أو الأحياء القديمة للمدينة، فضلا عن متعة الموسيقى التصويرية ولغة الراوي الشعرية، ويقدم الممثلون أداءً سلسا يتوافق مع المرثية العقائدية والنقد الاجتماعي الهادئ، الذي يسجل أفول مرحلة سياسية وتفسخها دون التعامل الفج مع السياسة وشعاراتها ورموزها.