الحياة خلف ظلال الحرب

ثقافة 2023/01/16
...

 علي العقباني

تعريفات متعددة، مختلفة ومتقاربة، رافقت هذه الكلمة (الديستوبيا ) “Dystopia” والأدب المرتبط بها، فالبعض وصفه (أدب المدينة الفاسدة)، الذي يتناول عالم الواقع المرير، والفاسد والمرتبط إلى حد كبير بالعالم الخلفي للمدن، وربما تعاطى الأدب معه كمجتمع غير مرغوب به، مخيف واستغلالي ومنحط، وربما خيالي، إنه مجتمع فاسد تسوده الجريمة والفوضى، قاسٍ لا خيرَ فيه، مليء بالقتل والخراب والفقر والقمع وتفشي الأمراض، بمقاربة أكبر إنه مجتمع خال من الإنسانيّة، ويذهب البعض إلى أن (ديستوبيا) بالمعنى اليوناني “المكان الخبيث” تأتي عكس (يوتوبيا) المكان الفاضل.

(الديستوبيا) التي نحن بصدد الحديث والمقاربة فيها هي العرض المسرحي الذي احتضنته صالة مسرح الحمراء بدمشق من إعداد وإخراج مأمون الخطيب.. وعن نص بعنوان «المزبلة الفاضلة» للكاتب السعودي عباس الحايك حوله الخطيب إلى «ديستوبيا»، وهو النص الذي فاز بعدد من الجوائز وعُرض عشرات المرات في مختلف البلدان العربية. الخطيب هنا في عرضه أجرى تعديلاً على الشخصيات، ليقاربها على الحالة السورية، ما بعد الحرب وارتداداتها النفسية والإنسانية على البشر، مستفيداً أيضاً من بعض تفاصيل مسرحية «الحضيض» لمكسيم غوركي، التي تعالج أيضاً عوالم الشخصيات الهامشية البسيطة، وعلى نص حايك المتضمن خمس شخصيات ومزبلة في فناء خلفي لإحدى المدن وهو يقارب أبنيتها وشوارعها، شخصيات هاربة من جحيم الحرب تتحدث عن المستقبل، ويترك الخطيب لممثليه التعامل مع ماض وتاريخ الشخصية في ارتجالات واشتغالات مسرحية مضافة فيما يسمى الارتجال الحر المدروس لكسر إيقاع العمل ومباشرته، مستهلاً عرضه بعبارة نيتشه نحن نحب الحياة، لا لأننا تعودنا على الحياة، بل لأننا تعودنا على الحب، والتي ربما هي في ترجمات أخرى «إننا نحب الحياة ، وليس سبب ذلك لأننا تعودنا الحياة، بل السبب في أننا تعودنا حب الحياة». 

الخطيب في هذا العرض يقارب الحرب من خلال آثارها المدمّرة على الناس والمجتمع نفسياً وإنسانياً، فمن خلال ديكور العرض الذي حققته «ريم الماغوط» محاولة إظهار المكان الرئيسي للأحداث أكبر من مزبلة، بل مكب كبير للقمامة في هذا الفناء المحاط بمجموعة من الأبنية التي تبدو منارة «الإضاءة لبسام حميدي» بشكل بسيط وحميم في الخلفية التي تبدو أنها تعيش مستقرة في توفر الحياة وسبل العيش فيها. 

يتضمن العرض خمس شخصيات: الكاتب المقهور إبراهيم عيسى، الممثل المسرحي الشاب رامي خلو، السيدة المصابة بالاكتئاب رنا جمول، الشاب البسيط إبراهيم عدبة، القشّاش غسان الدبس، الشخصيات الأربع الأولى في هذا المكان هاربة أو مطرودة من جحيم المدن والناس الذي خلفته الحرب، ثمة عقد سري أو علني بينهم بالعيش هنا في مدينتهم الخاصة، وما تعانيه من فساد ودمار وموت وقسوة وسيطرة وعنف، لكل منهم قصته وحياته، ألمه ووجعه، مرضه، خوفه، موقفه، شخصيات تعيش بين ظهرانينا بكل أوجاعها وأحلامها، محاولين بناء مدينتهم الخاصة بعيداً عن «ديستوبيا» المدينة، لكن هل يمكن بناء أو العيش في مزبلة فاضلة تعاكسها، أم ستنتقل تلك الأوبئة إليها، من خلال صراع الشخصيات مع بعضها أو من جشع التجار ورأس المال والسلطة في السيطرة على كل شي بما فيه حلم المزبلة الفاضلة أو حتى العيش فيها على أنقاض وهوامش المدن الكبيرة.  

هذا المجتمع الصغير الذي بني هنا في هذه المزبلة يبدو مجتمعا «فاضلاً» حاول هؤلاء بناءه على أنقاض الحرب، بالرغم من تنوع الشخصيات والخلافات التي تنشأ بينهم، لكنهم وبالرغم من تناقضاتهم الذاتية وأحلامهم وهواجسهم و»أمراضهم» يجدون صيغاً إنسانية وفنية للتقارب والود بما يخفف وقع الفاجعة في أرواحهم، وربما أراد الخطيب إنشاء مجتمع خاص على أنقاض الحرب وأهوالها، في قراءات متعددة للنص والفرجة المسرحية التي سعى إليها.

وخارج هذه الحياة لم يستطع الكاتب إيجاد مكانته الذي يستحق بالرغم مما يحمله من أفكار ورؤى وطموحات، يكتفي هنا بترداد مقولات نيتشه على رفاق المزبلة للتعبير عن وجعه وأحلامه التي سكبت خلف المحسوبيات وعدم التقدير في أداء متمكن ولافت لإبراهيم عيسى بعد غياب عن المسرح.  

وهنا لا بدَّ من مقاربة الشخصيتين الشابتين في التنوع والتشكيل وتجسيد الشخصيتين على نحو لافت، من خلال المنولوجات والتنوع في الأداء الذي شابه أحياناً بعض الانفعال، فكلاهما يملك قدرات تمثيلية جيدة، وكلاهما مشبع بالوجع والقهر والأحلام المجهضة في أتون الحرب، وهنا لا بدّ من التوقف عند الشخصية النسائيّة التي أدتها «رنا جمول» بأداء مغاير ولافت في تنوع الحالات والتركيبات الخاصة بهذه السيدة المصابة بالاكتئاب والوحدة.

أما شخصية القشّاش في العرض والتي قدمها «غسان الدبس» بما تحتويه من جلافة وقسوة ومحاولة إظهار جوانب البشاعة السلطويّة والماليّة على أحلام هؤلاء البسطاء حتى اللحاق بهم إلى هذه المزبلة، أداء سلس وبسيط وعميق.

“ديستوبيا”.. عرض ذو خصوصيَّة وتنوّع في القراءة والمغايرة، محاولة جادة لرسم ملامح مسرح يتناول قضايا ملحة في ظل تلك الأزمات التي نعيش ونحاول العيش والبقاء رغما عنها.