مسرحيَّة من ممثلة.. واحدة بيروت الضاجَّة بالمتناقضات

ثقافة 2023/01/17
...

 شكر حاجم الصالحي


لا يمكن لقارئ النص المسرحي المدوّن على سطح الورق أن ينال حظوة ذات النص الذي يُجسّد على خشبة المسرح، ففي الحالة الأولى يظل التلقي أحادي النظرة في حين ينفعل المتلقي عندما يرى ذلك النص وقد أظهره التمثيل ومكونات العرض الأخرى بصياغة جمالية مختلفة تماماً، ولهذا فإن معظم النصوص المسرحية لا تترك أثراً إلا بعد التجسيد الجمالي والبشري المقترن بمتممات العرض المضافة، وأبراج بيروت النص المسرحي الذي كتبه البلجيكي پاول ڤَرَپْت المولود (1963) والذي ترجمه حازم كمال الدين وتمت طباعته بنسخته العربية مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في العراق، يشير إلى موضوعة إنسانية يعاني منها الملايين من البشر، ألا وهي أزمة التشرد وما يتبعها من تداعيات سلوكية وانحرافات اجتماعية بلغت ذروتها في انهيار المفاهيم القيمية عند نشوب اختلالات التوازنات بسبب الحروب وصراع المصالح وكوارث اللجوء والعيش في المخيمات التي لا تليق بآدميَّة الإنسان.

لقد وجدت القراءة في (أبراج بيروت) الذي جاء محملاً بمعاناة فردية أطلقت كوامنها الخفية الشخصية الوحيدة (نبيلة) التي جسدتها بتدفق لغوي معبّر عن حياة مضطربة في بيروت الضاجة بالمتناقضات، وأرى أن اختيار (نبيلة) اسماً للشخصية يحمل دلالة قصدية لها معانيها المتعددة، والتي ظلت طوال مساحة النص المدوّن تنهض وحدها بدور استثنائي يفصح عن واقع عاشته الممثلة الوحيدة (نبيلة) في ما عانته من مشاعر وانكسارات وهي التي لم تبلغ عامها الخامس عشر كما يقول النص، (يوم عيد ميلادي الخامس عشر تلبسني الجنيّ استنشقه كما لو كان نفثة دخان خلافاً لما كانت تردده أمي كثيراً عن الجنّ، فهذا الجنيّ ليس روحاً شريرة، انه يحادثني بلطف، وغالباً ما يتظاهر بأن حرية القرار فيما أريد عائدة لي، إنه جني ذكي ولطيف).. هكذا أراد المؤلف ان تكون (نبيلة) باحثة عن متعة الحياة بعيداً عن حياة البؤس التي تعيشها في ظل أسرة منكودة وضعتها ظروفها في مأزقها الحياتي المر، كل ما كانت تتمناه في عيد ميلادها ــ رحلة إلى البحر ــ مع خالها في سيارته التاكسي، حتى تصبح في المدينة، هناك صخرة الروشة التي لا تعرفها إلا عبر الصور، وهناك كورنيش بيروت الذي ياما تمنت (نبيلة) التمشي فيه، إنّها أحلام وأمنيات بسيطة لصبية تطمح أن تستمتع بكل ما هو جميل بعيداً عن بؤس الفاقة والجوع والحرمان وحياة التشرّد واللجوء، ولا يمكن لهذه الصبية أن تحقق ما تتمناه وهي مكبلة بتقاليد الأب المزارع وقيمه الموروثة، لكنها اختارت الخروج على ما هي فيه من واقع واستطاعت على لسان ( پاول ڤَرَپْت) مؤلف أبراج بيروت أن تحقق، ولو في مخيلتها ما كانت محرومة منه، فقد كانت ترى في خالها سائق التاكسي أنموذجها الذي تراه محباً للحياة: (... خالي يعمل سائق تاكسي كل أسبوع يعود مرة واحدة للقرية، حاملاً قصصاً جميلة... يستغرق في نوم طويل، يبقى دهراً تحت الدوش يضم زوجته، يتطلع الى أطفاله، ويقفل راجعاً الى المدينة..).تستمر أبراج بيروت في بوحها عبر (نبيلة) التي تكتشف (زاهرة) التي تنبش في القمامة بحثاً عن الطعام الفائض عن حاجة المتخمين.. و (زاهرة) هذه تقول أبراج بيروت عنها: (جاء والداها لاجئين إلى هذا البلد، أما هي فقد ولدت في مخيم خارج المدينة).

وما بين نبيلة وزاهرة والجنيّ تمضي أبراج بيروت في توصيفاتها اللاذعة، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذا النص المسرحي الذي يقطّر ألماً وحزناً يتطلب بث الروح فيه من خلال تجسيده عملاً درامياً بشخصية واحدة تستحضر من خلال تلويناتها الجسديّة والصوتيّة كل ما تعانيه هذه الجماعات البشريّة من عسف واضطهاد وضياع، وأرى أن اختيار المؤلف ابراج بيروت عنواناً لرائعته هذه دلالة واضحة على وعيه الطبقي، فالأبراج تشير إلى العلو والحياة الباذخة في حين على النقيض (نبيلة) وأمنياتها البسيطة. وأخيراً.. أجد أن المترجم حازم كمال الدين، قد تألق في عمله الترجمي هذا، على إعجاب من قرأ ــ أبراج بيروت ــ فقد أبهرنا بترجمة شعرية كثفها في كيف كان الحال في المدينة، يسألني.. لا أدري أقول، في الليل تتسلل أمي الى غرفتي، أتظاهر بأنني غافية، تستلقي على جنبها أمامي، أطوقها بذراعي، استلقي محاطة بها: (ها أنتِ قد رجعت أخيراً) تهمس

لي.