سعدون جابر: نصرت البدر يسير بالطريق الصحيح

ثقافة 2023/01/18
...

 حوار: آمنة جبران

تركت أغاني الفنان سعدون جابر أثرها العميق في وجدان المستمع العراقي والعربي، وظلت ترتسم كنقاط دالة بجماليتها وعذوبتها في خارطة النغم العراقي، يعبق عطرها بالذاكرة الجمعية مثل "الطيور الطايرة"، "حسبالي"، "يا نجوى"، "اعبر على جفوني بحلم" وغيرها. عن تجربته الفنية الطويلة والمسارات التي انتهجها والتي أفضت به لأن يتعامل مع جيل الشباب، كانت لنا وقفة مع الفنان الكبير سعدون جابر الذي كانت له آراء جريئة وغير  مألوفة.

* أثارت عودتك جدلاً في الأغنية المشتركة مع نصرت البدر، إذ انتقدها الصحفي كرم نعمة ما أثار ردود فعل مختلفة بكونها "الأغنية الواهنة التي لا تليق بتاريخ سعدون جابر الكبير في الذائقة العربية".. ما الذي دفعك لهذه التجربة؟

- أعتقد أن هذه الأغنية بالفعل أثارت جدلاً واسعاً، ولكنها لو لم تكن بتقديري تحمل شيئاً جديداً لما غنيتها ولما اقتربت من فنان أعتقد الكثيرون أنه مسيء للفن العراقي بما قدمه، لكنني عكس كل الذين يقولون أن نصرت البدر أساء للغناء العراقي، أنا أقول إنه يحمل شيئاً جديداً للغناء العراقي، وما هذه الأغاني الجميلة التي نسمعها منه وخاصة "أحلى سنين" إلا  دليل بأنه يملك شيئاً جديداً.

وأنا في حسابي كسعدون جابر وضعته في سلة الملحنين الجيدين أو في سلة الملحنين السبعينيين، فواحد منهم هو نصرت البدر، صحيح أنه يأتي بعد أسماء كثيرة مثل: كوكب حمزة ومحسن فرحان وكاظم فندي وغيرهم، لكنه يحمل نفساً شاباً متأثراً بالتراث، رغم أنه في بداية حياته أسمعنا أغنيات، فعلاً، كانت فيها ركاكة، لكنه تدارك هذا وراح يغني ويلحن نصوصاً جيدة، وهو برأيي يسير في الطريق 

الصحيح.

أما بخصوص رأي الأستاذ كرم نعمة، لماذا ننكر على الناس أشياءهم الجيدة؟ نصرت عنده أشياء مسيئة في بداياته فعلاً، لكنه الآن تدارك هذا الوضع وقدم ألحاناً جيدة، فلماذا لا نشد على يده ونشجعه بدل أن نقوم بمهاجمته بطريقة قاسية؟

أقول إن الأذواق إذا تشابهت لبطل كل شيء، كما أن سعدون جابر وتاريخه الفني يشهد له بحسن الاختيار، لذلك أرى أنني اخترت الشيء الجيد عند نصرت وقدمته والأغنية التي لا تثير لغطاً لصالحها أو لغير صالحها تمر مرور الكرام عند الناس، لكن "أحلى سنين" لن تمر مرور الكرام، فقد أحدثت لغطاً وستحدث في السنين المقبلة اللغط الأكبر والحكم أولاً وأخيراً للناس، فلو تشابهت الأذواق لبارت السلع ولن نستطيع أن نميز بين الغث والسمين.

أتمنى من كل الذين نظروا بسوء للقاء الذي تم بين الغناء السبعيني والشبابي الذي مثله نصرت أن ينظروا ويسمعوا، بعيداً عن الأخطاء التي ارتكبها نصرت في أول حياته، والآن باعتبار أن نصرت تعاملت معه عن قرب وسأتعامل معه قريباً في أعمال أخرى، أتمنى لهم أن يسمعوا كل شيء وأن يسمعوا بعمق ويحكموا بأنفسهم: هل نصرت اليوم هو نصرت قبل عشرين عاماً؟ بالتأكيد لا فقد حدثت لديه انعطافة جيدة في الغناء.

* لحنت قصيدة "ردتك ولو كذاب" لمظفر النواب وأديتها وكأنك تستعيد تاريخاً من الغناء العراقي المعبر في زمن ما يسمى بـ "اختطاف الأغنية العراقية"، كيف تصف 

التجربة؟

- حدثت هذه الأغنية عن طريق المصادفة، إذ كنت قريباً من الشاعر الرقيق رياض النعماني وكان يدندن في بيتي بهذه القصيدة على عود كان يقول: "ردتك ولو كذاب ردتك.. ردتك بعمري صم عتاب".

انتبهت لجملة جميلة لحناً وشعراً، فقلت له لمن هذا الغناء الجميل والشعر الجميل، قال لي إنها لمظفر النواب، فطلبت منه إكمال اللحن، فرد: لم أسمع مظفر إلا بهذه الجملة. كان يدندن هذه الجملة فقط وبهذا اللحن، فسألته عن بقية اللحن كيف نحصل عليه، قال حينها بإمكاني أن ألحنه فحفزني ذلك على إمساك العود وتلحين بقية القصيدة.

* أنت تؤدي التراث العراقي بأسلوب خاص، وذكرت سابقاً أنك قدمته بـ "شكل مستحدث".. كيف؟

- أحب كل الغناء التراثي العراقي والعربي، لأني أعتقد أنه أكثر صدقاً من الغناء في هذه الأيام، فالمغني سابقاً كان يغني من أجل حال تخصه او تخص مجتمعه، لم يكتب أو يغني من أجل أن يكسب، كان يغني لأجل الناس.

والناس وهم كل شيء في العملية الإبداعية، إن لم يكتب او يلحن أو يغني للناس فسيبقى عمله بعيداً عنهم، لكن حين يكتب ويغني لهم يدخل قلوبهم بدون استئذان، وهكذا بقي الغناء التراثي عموماً في العالم العربي هو الأقرب للناس من غناء هذه الأيام.

ربما يطربني مغنٍ بدوي في الصحراء أكثر من مغني اليوم بالعالم العربي، لأنني أشعر بصدق غريب عند هذا البدوي. أشعر أنه الأقرب إليّ من أكبر المغنين في العالم.

* ركزت على أداء الأغاني الصعبة لحناً وكلمات وجملاً موسيقية، هل تعتقد أن أداءك لهذه النوعية من الأغاني سبب عدم انتشار بعضها؟

- الغناء المستحدث الذي اخترته أنا ربما قدمته في غير وقته وغير زمانه وكان ذلك سبباً في عدم وصوله للأذن العراقية والعربية، ومنه مثلاً أغنيات المرحوم العبقري بليغ حمدي، إذ لحن لي أربع أغنيات وكانت من كلمات الشاعر كريم العراقي الذي أتمنى له الشفاء العاجل هذه 

الأيام.

اختار بليغ حمدي الأغاني أو الأشعار حينها وذهب العام 1983 إلى القاهرة وسجلها، ودفع من جيبه الخاص أجور التسجيل والاستوديوهات، وجاء إلى لندن حيث كنت أعيش سنة 1985 ، طبعاً هو أسمعني الألحان عبر التليفون، ولاحظوا الرصانة التي يحملها أستاذ بليغ: قال لي يجب أن استمع إليها قبل أن تصبح الأغنيات جاهزة..

وفي سنة 1988، أراد المرحوم منير بشير أن يطرحها للناس في كاسيتات ثم يتبرع بمبالغها للمجهود الحربي العراقي آنذاك، فقلت له هذا الوقت غير ملائم، لأن الحرب على أشدها ولن تجد مستمعين، لكنه أصر أن تطرح، وهكذا حظيت تلك الأغاني باهتمام ضئيل، ولهذا السبب تكون بعض الأغنيات حين تقدم في غير وقتها وزمانها لا تحظى باهتمام كافٍ.

وأستطيــع القــول أن 95 % إلـى

98 % من أغنياتي وصلت للناس، أما البعض الآخر إما تلكؤ مني في عدم تصويرها أو لانشغالي بأعمال أخرى غير الغناء، وهو ما حال بينها وبين الانتشار، ولهذا السبب لم تحظَ بمشاهدة أو بسماع عالٍ.

*المقام العراقي وقد برعت في أدائه، ما قصة نجاحك في هذا الشكل الموسيقي الصعب؟

- أعتقد أولا أن النجاح هو قدرة من الله وعطاء منه، فأنا لست مغنياً مقامياً، فأنا ابن بيئة ريفية جنوبية التقطت أذناي أول ما التقطت الغناء الريفي، لكن حين انتقلنا إلى بغداد اشتغلت، ومن عجيب المصادفات أني عملت في كورس المغني الأستاذ محمد القبانجي، المغني المقامي الأول في العراق، فكنت أردد الغناء المقامي خلفه ودخلت أذني روائع الغناء المقامي.

واستطاعت هذه الأذن أن تجمع بين الغناء الريفي والمقامي وغناء المدينة واستمعت إلى الغناء في الصحراء وأعجبت به، فاقتربت في الغناء من خارطة الغناء العراقي كلها، لكن لا أستطيع أن أقول أني غنيت بعمق جميع كل هذه الخارطة، استطعت أن أغني وأبدع فيها لأني أحبها، ولأن الله أعطاني قدرة صوتية وذوقية تعرف ماذا تغني من هذه الخارطة الغنية، حتى أشاد الكثير من النقاد والناس بي.