الاستشراقُ التعبويّ ونظريَّة الحتميَّةِ التاريخيَّة

ثقافة 2023/01/18
...

 د. فارس عزيز المدرس

   بداية أنوه إلى أنني سأشتق مصطلحَ (الاستشراق التعبوي) لتمييز نمطية مستحدثة من الدراسات الاستشراقية؛ هي أشبه ما تكون بعملية تحشيد موجّهة نحو الشرق؛ والشرق العربي على الخصوص. وميزة الاستشراق التعبوي أنه تابعٌ لمؤسسات سياسيّة ذات نمط استراتيجي تدعمه، بخلاف الاستشراق الأكاديميِّ الحرّ؛ الذي كان اتخذ المنهجَ العلمي مرتكزاً له؛ وصدر عن علماء كِبار؛ أفنوا أعمارهم في الدراسات الشرقيّة.

 يشتغل خطابُ الاستشراق التعبوي عِبر روّادِه الجُدد على مستويات مختلفة؛ لا سيما المستوى الشعبي؛ فمنذ سبعينات القرن العشرين، عمِلت المؤسسات الأكاديميّة في الغرب على نقد الاستشراق الكلاسيكي، وحاولت أن تنأى بنفسها عن حُمولاتِه السلبية، لكنْ بقيَ الاستشراق الشعبيُّ نافذَ الخطاب، ونجح في إبقاء الحنين الرومانسي والاستعماري في الغرب يستنسخ نفسَه في الأدب والإعلام والسينما. 

  وهكذا ظهر كُتابٌ يروّجون أفكارَ قِسمٍ مِن المستشرقين الكلاسيكيين المتحاملين، ومِن هؤلاء: دانيال پايپس وپاتريشا كرونا، ومايكل كوك، الذين بسّطوا أفكارَ أساتذتهم، ونزلوا بها إلى مستوىً شعبيٍّ، وأعلنوا عن أفكارٍ متطرّفة لم يكن أساتذتُهم قادرين على إعلانِها؛ نظراً لقصورِها وهشاشتِها. 

  وهناك مستوى آخر مِن الكتّابِ حاول إعطاء الخطاب المتحامل للاستشراق التعبوي بعداً فلسفياً، ليسوغ الهيمنةَ الغربية تسويغاً منطقياً، ومثال ذلك فرنسيس فوكوياما؛ الذي أخذ ينظّر للأفكار البسيطة المتمثلة بأنموذج دانيال پايپس (أحدُ أتباع المستشرقين) ويخرجها عن سطحيتها، ويعطيها بعداً فلسفيا، ويحيْل مقولاتِها إلى مساقات فلسفيّة تمتد إلى الفيلسوف فردريك هيگل، والكسندر كوجيف.

  بل بلغ الأمر حدّاً بـ فوكوياما ألا يدعو إلى إلغاء حضور الآخر فحسبُ؛ بل يشكُّ في جدوى تفكيره، وعنوان كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخيرThe End of History and The last Man) يحمل إيحاء بجبريةِ الاستقطاب، ويؤكد انتفاءَ حاجة الآخر إلى التفكير في تحوّلات التاريخ والأنساق الحضارية. 

وبحسب فوكوياما: فإنَّ سقف التفكير الحضاري بات يتمثّل بالنُظم اللبرالية بصيغتها الأمريكية!؛ وحضارةُ الإنسان ومدنيّته وصلتا ذروتَيهما في النظام العالمي الجديد، ولا حاجة إلى التفكير في هذا المجال؛ فـ (الأنموذج الأمريكي) ذروة التكامل، وعلى الجميع ترك حركة التاريخ تأخذ مجراها؛ ولا جدوى مِن أيِّ آيديولوجية أو عقيدة تحلّ محلّها، لا المَلَكية ولا الفاشيَّة ولا الشيوعيَّة ولا غيرِها. وهكذا تقابل فكرةُ (الإنسانُ الأخير) مقولةَ الشعبِ المختار، أو ألمانيا فوق الجميع؛ لكنْ بخطاب فلسفي.

أمّا إدانةُ الآخر وتحميله تبعاتِ الخلافات والأخطاء فمستمرةٌ وفاعلةٌ في خطاب الاستشراق التعبوي؛ لا سيما إذا كان الآخرُ شرقياً؛ أُلصقت به سلفاً سِمةٌ التخلّف الذاتي؛ من دون النظرِ في تاريخه الذي كان حافلاً بالتقدّم والحضارة، ومن دون البحث عن عواملِ تخلّفه الداخلية والخارجية والإسهام في معالجتها. 

  ولنتأمل الحقائق على الأرض؛ وسنرى ألّا وجود لدى فوكوياما ولا لويس، ولا پايپس أيّ تفاعلٍ بين آراء الغرب والآخر: لا حوارَ حقيقياً، لا اعتراف مُتبادلاً؛ ما خلا اعترافٌ إنشائيٌ يصبُّ في مصلحة السياسة الاستراتيجية الغربية. أمّا معالجةُ مشكلات الشرق؛ بما فيها التدخّل الغربي، والفساد السياسي والاقتصادي، وطمس الحريات، والإصلاح التعليمي والكفُ عن إثارةِ نعراتِ الطائفية والأقليات، فأمورٌ لا يعتدّون بها، ولا يشيرون إليها إلا على استحياء.

  وتأتي خطورةُ المِسحةِ الأكاديمية في دعم هذه الطروحات التي تركب موجةَ المزج بين السياسةِ وفلسفة التاريخ مِن كونِها موجَّهةٌ إلى قطاع بسيط مِن قُرّاءٍ سيقعون في هاجس الفوبيا التي تتختّل بثوبِ المنهج العلمي؛ الذي يشتقّ الحاضرَ مِن تصوراتٍ كتبها مستشرقون؛ وسرعان ما تتحول إلى مَعملٍ ينتج خطاباً يُجيَّرُ لِصالح السياسة؛ وعلى وفقِ لغةٍ بارعة في تصنيع صورةٍ للآخر تصهره في بوتقةِ الفعلِ التاريخي الغربي. 

يسلِّمُ فوكوياما بانتهاء المَسارِ الخطِّي للتاريخ؛ وأنّ عواملَ التاريخ التي طالما تحكّمتْ في اتجاهه تمّتْ السيطرةُ عليها؛ فلا عواملَ مباشرة ولا ميتافيزيقية لها القابليةُ على التدخّل في المستقبل البشري؛ لأنّ السيطرةَ على حركة التاريخ قد تمّتْ مِن لدن الحضارة الغربيَّة. فماذا يعني هذا؟

 يعني: أنَّ صعودَ الحضاراتِ وانحطاطَها لم يعُدْ خطيّاً؛ كما كان يقول ابن خلدون أو توينبي. وفوكوياما في هذا مِثلُ هنتغنتون يدمج الهيمنةَ الأمريكية بالحضارة الغربية جملةً؛ وكأنَّ أمريكا هي الغربُ كله، وكلَّ صِدامٍ تتعرّض له أمريكا هو بالضرورةِ صِدامٌ مع الغرب كلِّه!. وهذا نوعٌ فاضحٌ مِن الاستِعداء.

  إنَّ مِيزةَ اختصارِ التواريخ التي تهيمن على الذهنِ أزمةٌ فكريّة؛ وآفةٌ تحطُّ مِن قيمة العلم، والاختصارُ إلغاءٌ للآخر، وتغييبٌ لحضوره. والمختصِرون يستشهدون بآراء المتحاملين مِن المستشرقين؛ تماماً كما نرى فيما كتبَه جي ساوندرس في كتابه A history of Medieval Islam، يقول: “تنقسم الدياناتُ الكبرى في العالم إلى قسمين، الديانات الشركيّة؛ كما هو الحال في الهند، والديانة التوحيديّة كما هو الحال في الغرب.. أمّا الإسلامُ فينحدر مِن طبعةٍ يهوديّة! والأمرُ الذي سرّعَ في ظهور “محمد” الخلافاتُ اللاهوتية التي حدثت في مَجْمع نيقية والقسطنطينية؛ حول طبيعة المسيح.. وحصلت الانشقاقات وانتهت بلجوءِ الزنادقةِ إلى جزيرة العرب وانتشرت مذاهبُهم هناك، ومِن هناك اتخذ الإسلامُ مَصادره”!. 

  ولا حاجة لأنْ نقول في هذا الكلام ما يقوله المثلُ العربي: (رمتْني بدائها وانسلّتِ)، فهذه الآراءُ بالجملة آراءُ لفيفٍ مِن المستشرقين الكلاسيكيين التي طالما أصروا على ثبوتها؛ لكنها تهاوَتْ؛ لأنها لم تجدْ أدلةً على صحتها. لكنها ستعود على أيدي الاستشراق التعبوي الذي استغلّ قطارَ الدراسات الفيلولوجيا؛ التي فشلت هي الأخرى؛ إذْ أثبتت البحوث الكيدكيولوجية (التحقيق الفيزياوي للمخطوطات) خللَ ادعاءاتِ كلٍّ مِن باتريشا كرونا ومايكل كوك في كتابهما (الهاجريون) الذي نفيا فيه وجودَ إسلامٍ مُبكِّر.

ونحن إذن بصددِ كاتبٍ يبدو لا كبيرَ درايةٍ له بتاريخ الإسلام؛ ولا حتى بتاريخ المسيحيّة؛ لكنه بارعٌ في شطبِ التواريخ؛ فلا يقول إنَّ نسطور ثار على الرواسبِ التي كانت سبباً في مواقفه؛ بل يقول: إنَّ نسطور الشرقي زنديق، ومنه استقى المسلمون أصولَ دينِهم. وهذا ليس نفياً للمسلمين وإلغاءً لماضيهم فحسبُ؛ بل إلغاءٌ لِما هو شرقي، وتعريضٌ حتى بالكنيسةِ الشرقية آنذاك. 

وحديثنا هنا لا يستهدف نقدَ الخطاب المُتحامل بقدر ما ينوّه إلى قضيةِ الخللِ في اشتغال ثنائية الأنا والآخر لدى هذه الشريحة مِن الكتَّاب؛ التي يؤثّرون بها على وعيِ مجتمعاتهم، الأمرُ الذي يُمهِّد الطريقَ للسياسةِ؛ لتتخذ قراراتِها المتطرفة تجاه الشرق وقضياه الشائكة.

ولا ننفق وقتنا لردِّ هذا التحامل؛ ولكنْ لنستمعَ إلى ما يقوله أحدُ عُتاة الفلسفةِ الغربيّة في العصر الحديث وأحدُ مؤسّسي الحداثة (فريدريك نيتشيه)؛ يقول: “إنَّ العالم الغرائبي لحضارة العرب في أسبانيا - والذي هو أكثرُ قرباً إلينا مِن روما واليونان، ويتناسب مع شعورنا وذوقنا - قد طُمِس؛ لأنه دان بمولدِه لغرائز أرستقراطية رجوليَّة، وأكَّدَ الحياةَ؛ بما فيها مِن الغِنى النادر والمهذب للحياةِ الأندلسيّة.. فلم يعُد ثمة شكوك في الاتجاه الايجابي الذي يُتخذ؛ لا بين الإسلام والمسيحية، ولا بين عربي ويهودي. والقرارُ: إمّا أنْ تكون شاندالا (كنايةً عن طبقة الضعفاء والمنبوذين في الهند)؛ أو لا تكون شاندالا، ... وهكذا فعل ذلك الروح الحرّ والعبقري بين الأباطرة الألمان: فريدريك الثاني”، Friedrich II von    Staufen) 1194 - 1250) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1220- 1250) وملك صقلية، المعروف عنه انفعاله بأطر الحضارةِ الاندلسيّة، وتمجيده لها، والأخذ عن علمائها. وإيمانه بقبولِ الآخر والانفعال به؛ بحسب ما يقتضيه الحضور الإنساني المشترك.

وسُقنا كلامَ نيتشيه لنرى كيفيةَ اشتغالِ الفكر الأوروبي الحر في إدانة الإقصاء والتطرّف الأكاديمي وشِبه الأكاديمي، والذي غالباً ما يقع تحت أطرٍ دينيّة؛ ويُفضي إلى إحداثِ قطيعةٍ مع الآخر؛ مما يشكّل هوّةً حضاريةً مُستدامةً، وهذا ما حصل بين الشرق والغرب. والأمر نفسُه نقوله في حالَ صدورِه عن الشرق تجاه الغرب، فقضيتُنا بالأساس ذاتُ هدفٍ أخلاقيٍّ وبُعد إنساني تجاه الآخر.

   وبالعودةِ إلى فوكوياما فالنتيجةُ التي يخلُص إليها لا تختلف عن تلك التي انتهى إليها هيجل، ما خلا أنَّ الأخيرَ غلّف مقولاتِه بغلاف مِثالي، وحاول المقابلةَ بين الروح والعقل؛ كي يخلصَ إلى أنّ الأنموذجَ الغربي هو الأنموذج الأبويُّ للعالم؛ بعد أنْ شاخ الشرقُ؛ ولم يعد له إلا عطاءٌ رومانسي. 

وما فعله فوكاياما لا يعدو إنزالَ أفكار هيگل في فلسفة التاريخ مِن عليائها المثالي؛ لتدخل في نطاق التفكير السياسي ذي الغلاف الحضاري. والنتيجة هي هي: أبوّةُ الغربِ وتبعيّةُ الشرق.

 إنّ الأنموذج الذي صاغه الاستشراقُ التعبوي أسهم في تزويد المركزية الغربية بمعلوماتٍ عن الشرق؛ صنّعها تصنيعاً يتناسب والعقلية المركزية. وما فعله الاستشراق التعبوي فعله الرحّالةُ أيضاً؛ لكنْ بأسلوبٍ وصفيٍّ عمَد إلى تصنيع شرقٍ تخيّلي؛ ترك رواسبَ ثقيلة عن الشرق في الثقافة الغربية. 

لا أدّعي أنَّ كتاباتِ فوكوياما أو كوجيف عملٌ استشراقيٌ؛ لكنْ نوّهتُ إلى ضرورةِ معرفة المنابعِ النصوصية التي يستقي منها هؤلاء المُنظِّرون معلوماتِهم عن الشرق؛ وهي في الغالبِ تأتيهم مِن كتاباتِ المستشرقين والرحّالة بمختلف صنوفهم؛ فضلاً عن رواسب تاريخيّة قديمة تنحدر مِن أدبياتِ الحروب الصليبيّة.

 إذن فالخطورةُ تتمثّل بتغلغل رؤى الاستشراق التعبوي في نسيج المؤسسات السياسية الغربية؛ على شكل قوالبَ جاهزةٍ؛ عبر التكرار والتبسيط. فمثلا أفكار برنارد لويس المتضاربة عن الإسلام في كتاباته الأخيرة دليلٌ على الخدمة الاستشراقية للسياسة الاستراتيجية الغربية تجاه الإسلام. 

كان لويس صوتا مسموعاً ومقرباً من الراديكاليين الأمريكان؛ من مثل ديك تشيني وريتشارد بيرل؛ زعیم الجناح الصهيوني في إدارة بوش، وپول ولوفويتز؛ الذي كان مساعد وزیر الدفاع، ثم عمل رئيساً للبنك الدولي؛ ثم طُرد على إثر فضيحة إدارية. وولفويتز هذا أحد مهندسي الحرب على العراق؛ أغدق على لويس تكريما في آذار 2002، قائلا: “علّمَنا لویس كیف نفهم التاریخ المعقد للشرق الأوسط، وكيف نستخدمه؛ كي یقودنا إلى المرحلة الجدّیة لبناء عالم أفضل لأجیالنا المقبلة.

والكلام أعلاه لا يعني أنَّ كلَّ مُختصّ بالشرق - وله علاقة بالنشاط السياسي - هو بالضرورةِ نموذج لـ لويس أو بايپس، فمن حق أيّ أحدٍ أنْ ينظّرَ ويسهمَ في سياساتِ بلده ومصالحه؛ لكن مِن جانبٍ آخر مِن حقِّنا نقد الذين يتخذون الأكاديمية والاستشراق وسيلةً شعبيةً لغمطِ الآخر حقّه، أو التحريض عليه أو اختصار تاريخه ومشكلاته. 

 وإنه مِن المُخلِّ في أخلاقياتِ العلم استخدام مقولاتِ فلسفة التاريخ؛ مِن مثل حتمية التاريخ وصراع الحضارات والأنا والآخر.. وعرضها على جمهور يصعب عليه الفحصُ والتدقيق. أو تطرح كمسلَّمات بأيدي سياسيين يتسلّحونَ بها وينتهكون القيمة المعرفيّة، وهم لا يفقهون الكثيرَ من مُدخلاتِها، ولا حتى مخرجاتها؛ بقدر ما يهمهم تحشيد القوى؛ دعماً لمصالِحهم المُحدّدة سَلفاً. إنَّ النمو الحضاري السليم يقتضي الموضوعية لا التحريض، ويستلزم أنْ يكون هاجسُ العلم التحريَ عن منافذ التلاقي والتكافل بين المجتمعات، وإلا فشعاراتُ السلامِ والتمدّن ما هي إلا حِبرٌ على ورق؛ يكذّبها الواقع وتحفّها المآسي والخروقات الأخلاقية للمعرفة

المنحرفة.